مديرة ناحية بيارة تفتح لـ«الشرق الأوسط» أبواب هورامان في إقليم كردستان

نوخشة ناصح تحكم بلدة جبلية نائية على الحدود العراقية ـ الإيرانية

زواج على الطريقة الهورامية وفي الاطار نوخشة ناصح مديرة ناحية بيارة («الشرق الأوسط»)
TT

عندما نتوغل لمسافة 84 كيلومترا، جنوب شرقي مركز مدينة السليمانية، ثاني مدن إقليم كردستان العراق، ونقترب من الحدود العراقية - الإيرانية، نجد أنفسنا في بلدة بيارة المختبئة بين الجبال وتحت ظلال أشجار الجوز والتفاح والتين والتوت والرمان، بلدة ساحرة في جمال طبيعتها، تسترخي على مساحة 71 ألف دونم، ويعيش سكانها الذين لا يزيدون على 6 آلاف شخص على الزراعة والصناعات الشعبية التي يتوارثونها، نساء ورجالا، عن أسلافهم منذ مئات السنين. وهذا العدد قابل للزيادة في فصل الصيف بسبب عودة أهالي الناحية إلى بساتينهم وأراضيهم الزراعية.

البلدة المؤشرة في الخرائط الإدارية باعتبارها ناحية هي ريفية أكثر منها مدنية، حتى طباع وأخلاق أهلها، ما زالت تشبه الطبيعة المحيطة بكرمها وسخائها وطيبتها. وتعتبر منطقة حدودية بامتياز لأنها واقعة وعلى طول الحدود الشرقية المتاخمة لإيران.

مفاجآت هذه البلدة كثيرة، وقابلة للاستكشاف باستمرار، لكن واحدة من أبرز هذه المفاجآت هي أن من يحكمها إداريا هي امرأة شابة، نوخشة ناصح أحمد، مديرة ناحية بيارة، التي تبدأ برنامج عملها اليومي منذ الصباح الباكر ولا ينتهي حتى في ساعات الليل. «ومن الممكن أن تستدعى للعمل في أي وقت لحل مشكلة أو أية قضية تواجه الناس هنا»، على حد إيضاحها، منبهة إلى أنها تمضي جل وقتها في جولات بين قرى الناحية وناسها أكثر مما تمضيه وراء مكتبها.

وفي رسمها لصورة المنطقة التي تقع ضمنها ناحية بيارة، تقول مديرتها «تقع بيارة ضمن منطقة هورامان الغنية ببساتين الأشجار المثمرة مثل الجوز الذي يعتبر من الثمار الأساسية في المنطقة، والتوت بالدرجة الثانية وأنواع أخرى من الثمار كالرمان، والتين، والتفاح، والعنب، وأنواع أخرى»، موضحة أن «منطقة هورامان تعد المنطقة الأقدم في كردستان، إذ يعود تاريخ بنائها إلى الإسكندر ذو القرنين، حسبما تشير بعض المصادر التاريخية. كما أن اللهجة، وربما اللغة (إن صح التعبير)، الهورامية هي الأقدم لغويا في المنطقة، وتختلف عن اللهجتين الكرديتين الشائعتين، السورانية والبهدنانية، وعلى هذا الأساس فإن الثقافة الهورامية، لربما تكون، الأقدم في المنطقة كلها ولا يخفى على الكثيرين هنا أن لهذه الثقافة الفضل الأكبر في إثراء الثقافات الأخرى».

الطريق إلى ناحية بيارة يتلوى بين منحنيات الوديان وحافات سفوح الجبال المؤثثة بالأشجار وكروم العنب. تقول نوخشة، متغزلة بجمال طبيعة منطقتها «تحيط منطقتنا، من الناحية الجغرافية، سلاسل جبلية شاهقة هي جزء من سلسلة جبال زاكروس. وأبرز هذه الجبال الواقعة ضمن منطقة هورامان، هي: دالاني، كره جال، هسون وشرام مشكلة مناظر طبيعية خلابة لا تقل في تقيميها بالمعايير العالمية عن أشهر وأجمل المناطق السياحية في العالم، ولا أبالغ حين أقول إنها الأروع في عموم كردستان. فأنت ترى وأنت تسير في المنطقة أشهق وأصعب الجبال وأروع التلال الخضراء، وأكثر البساتين المثمرة كثافة من حيث أعداد الأشجار التي تغطي تقريبا أكثر طرق وشوارع المنطقة التي تزخر بينابيع المياه الباردة صيفا والدافئة شتاء».

والمعروف أن الرجل الكردي، وخاصة الريفي لا يزال يتمسك بتقاليد شرقية راسخة في أن يكون هو الحاكم أو أن يمتثل لرجل مثله، أكبر سنا وشأنا (عشائريا) منه، لكن نوخشة، التي تعتز بزيها الكردي، وبما تتمتع به من رقة وأناقة وخبرة كسبتها خلال دراستها للقانون في جامعة السليمانية (بكالوريوس قانون عام 2004)، وعملها في وزارة الداخلية في إقليم كردستان، استطاعت أن تطوع التقاليد لصالحها ولصالح العمل من أجل تطوير بلدتها وأهلها.

تقول لـ«الشرق الأوسط» التي التقتها في بيارة «فيما يخص كوني امرأة فإنني أعتقد بأنني لست الأولى التي تتقلد منصبا إداريا في إحدى مؤسسات حكومة إقليم كردستان، صحيح أنني أول سيدة في هذا المنصب في منطقة هورامان بالتحديد ولكن هذا لا يمنع من تقبل وعدم رفض أهالي المنطقة لامرأة تدير أمور البلدة وأمورهم إداريا وأحاول جاهدة إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاتهم ونزاعاتهم، أما فيما يخص كوني شابة فأنا أعتقد بأن هذه النقطة بالتحديد هي نقطة إيجابية تضاف لرصيدي الشخصي وتمنح العمل طاقة نشطة وفعالة تضفي الحيوية للنشاطات اليومية المتعلقة بالأعمال المتعلقة بأمور المنطقة».

وتعبر نوخشة عن اعتقادها بأن «الرجل الكردي وخاصة في منطقة هورامان قد يكون الأكثر تقبلا للمرأة كشريكة فاعلة في الحياة الخاصة وعنصر مؤثر في الحياة العامة والعملية، وتاريخ المنطقة يثبت لنا أن المجتمع الهورامي (من هورامان) قد أدرك منذ أمد طويل أهمية المرأة خارج البيت ومدى الحاجة في إدخالها كعنصر فاعل في الحياة العملية، ولذلك فإن وجودي كامرأة تدير شؤون المنطقة هو ليس بغريب ألبتة لا علي، باعتباري من أهالي هورامان، ولا على رجال المنطقة الذين ألفوا وجود المرأة معهم في حقولهم وفي دبكاتهم الكردية خلال حفلاتهم».

في القرى الكردية بإقليم كردستان العراق، يبدو أنه من الصعب أن تلتقي رجلا أو مجموعة من الرجال الذين يعملون في الحقل من دون غناء، فالغناء هو الذي ينظم إيقاع عملهم اليومي. فالكردي يغني عندما يفرح وحتى عندما يحزن، ويغني حينما يتسلق الجبل، وكذلك عندما يعمل، وعندما تتوفر الفرصة لأن يضمن غناءه بدبكة كردية مع أصحابه، فإنه لن يتأخر في ذلك.

تقول مديرة ناحية بيارة التابعة لمنطقة هورامان «الموسيقى والغناء والطرب جزء مهم وحيوي في تكوين الثقافة الهورامية، وتعتبر الأغاني الهورامية ميلوديا من أكثر الأغاني صعوبة في الأداء فهي تشمل منحنيات موسيقية عالية التعقيد لا يمكن إلا للمحترفين من المغنين أداؤها، وهذا الأسلوب في الغناء يتلخص بأن يبدأ أحدهم بالغناء ليتسلم منه الثاني ويبني الأغنية، ثم الثالث، وهكذا يتصاعد بناء الأغنية وبأصوات مختلفة وضمن نفس الميزان الشعري واللحني. وهذا يعود إلى أن حقول أو مناطق الهوراميين متباعدة وأحيانا معزولة، فعندما كان يغني أحدهم، بصوت عال بطبيعة الحال، يرد عليه آخر في مكان أبعد منه ليواصل معه الغناء، وهكذا».

وتوضح نوخشة، قائلة «حقيقة الأمر أن منطقة هورامان شهدت على مر التاريخ ظهور ديانات متعددة تداخلت تأثيراتها على ثقافة سكان المنطقة وتجلت ألوانها في الغناء الهورامي، فمن أشهر تلك الديانات الزرادشتية التي كانت تمارس طقوسها الدينية عن طريق الغناء كنوع من أهم وسائل الابتهال والدعاء، وبقيت آثار تلك الثقافة راسخة إلى يومنا هذا».

تنتج العائلة الهورامية في بيارة غالبية احتياجاتها الحياتية، من ملابس ومستلزمات البيت. توضح مديرة ناحية بيارة قائلة «فيما يتعلق بالصناعات اليدوية الهورامية فبحكم المنطقة كانت وما زالت من المناطق الجبلية الوعرة والصعبة، فإن هذا الواقع قد عزل سكانها عن الآخرين، فكسب السكان الهوراميون نقطتين إيجابيتين، الأولى اعتمادهم الكلي على ما يصنعونه بأيديهم من أجل سد حاجتهم الذاتية وتغذية الطلب المحلي، وهذا ما كرس الحرف الهورامية وعزز الصناعات المحلية وما زالت الملابس الهورامية، أي التي يتم حياكتها في هورامان والخاصة والمتعلقة ببيئة وثقافة المنطقة، هي الأفضل والأغلى سعرا من الصناعات الأخرى وحتى الخارجية منها، ولا تستغرب إذا ما قلت بأن الحذاء الذي يحاك في هورامان وبأيد هورامية والمعروف باسم (كلاش) هو أغلى ثمنا ثلاث مرات من أشهر ماركة حذاء تركي مستورد».

ومديرة ناحية بيارة تقر بوجود مشكلات في بلدتها الحدودية، منها الأمنية، وأخرى تتعلق بتهريب السلع بين العراق وإيران، ومشكلات تتعلق بالأراضي والملكية. تقول «بلدتنا تعتبر منطقة حدودية بامتياز، وهذا الواقع يفرض عليها الكثير من المشكلات الأمنية في بعض الأحيان، ومشكلات متعلقة بمهربي السلع والبضائع من وإلى إيران»، مشيرة إلى أن «هناك بالتأكيد اهتماما واضحا وكبيرا من قبل حكومة إقليم كردستان بمنطقة هورامان، والسبب الرئيسي يعود لكون هذه المنطقة عانت ما عانت من الوجود القسري للجماعات الإرهابية الأصولية المسلحة التي كانت تسمي نفسها (أنصار الإسلام)، والتي عبثت كثيرا بالمنطقة وخربت الكثير وأذت السكان أيضا. ولكن بعد تغيير النظام في 2003 وبجهود قوى التحالف وقوات البيشمركة تم تحرير المنطقة لتبدأ حملة الإعمار، فنحن نحصل سنويا، كمديرية ناحية، على ميزانية جيدة من أجل خدمة المنطقة وأهاليها، ولكوني امرأة فإن حكومة الإقليم تقوم بمساندتي أكثر وبصورة خاصة، لأنني أقوم بمهام الرجال الصعبة في المنطقة الحدودية الأصعب».

نوخشة، باعتبارها امرأة كردية، وابنة الجبل، فإنها لا تميل إلى الأعمال السهلة، بل تفضل المواجهة الصعبة، فبعد تخرجها عملت في وزارة الداخلية، وحسبما توضح «في بداية عملي توظفت وبحكم تخصصي في القسم القانوني التابع لمديرية الأمن العامة أو ما يعرف بالكردية (أسايش)، وبعد تجربة أربع سنوات شغر موقع مدير ناحية بيارة التي أتحدر منها، فأعربت عن رغبتي في أن أكون مديرة ناحية البلدة التي ولدت وعشت فيها لأنني أعرف طبيعة المنطقة وتشابكات علاقاتها الاجتماعية، وأنا بطبعي عندما أضع مسألة نصب عيني فإنني أعمل جاهدة لتحقيقها، وهكذا تقدمت في عام 2008 بطلب لإشغال هذه الوظيفة، ولحسن الحظ لقيت الدعم الكافي من قبل بعض المسؤولين في إدارة محافظة السليمانية، وكان هناك أربعة مرشحين لهذه الوظيفة، أنا بضمنهم، فتقرر إجراء انتخابات، وكانت نتيجة التصويت لصالحي حيث فزت أنا بغالبية الأصوات. وقد سعدت حقا بأن يتم منحي الثقة، وأن يتم تكليف امرأة لإدارة ناحية نائية وظروفها صعبة»، منوهة بأنه «منذ اليوم الأول الذي تسلمت فيه مهامي هنا وضعت نصب عيني وعملت جاهدة من أجل ترسيخ التعليم وإنشاء المدارس والتقليل قدر الإمكان من الأمية، إضافة إلى اهتمامي بالحقل الصحي الذي شغل وما زال يشغل حيزا كبيرا في أجندتي الإدارية بالإضافة إلى اهتمامي الخاص بالرياضة، وأعتقد بأنني والحمد لله قد وفقت نوعا ما بإحداث التغيير الذي يرضي جانبا من طموحي الأكبر في خدمة الناس والبلدة، وسيكون هذا العام للتركيز على إعادة بناء وإعمار وتأهيل القرى المهدمة».

ونوخشة لا تدير فقط مركز الناحية بل هناك الكثير من القرى المتناثرة على سفوح الجبال العالية أو في بطون الوديان، وبعض هذه القرى هي: طويلة، وبلغة، وسوسكان، وبالانيا، وهاوار، وجاوريان، ودكاشيخان، وزردهال، ونارنجلة، وباخكون، وجينة، وخه رباني، وخاركيلان، وكولب، وهانه دن، وسه ركه ت، وبنجوى.