عرض المتحف البريطاني في لندن، أمس، 200 قطعة أثرية فنية ذهبية تعود إلى آلاف السنين، كانت على وشك التعرض للتدمير جراء الحرب على الأراضي الأفغانية. والمعرض يأتي تحت اسم «أفغانستان: مفترق طرق في العالم القديم»، وقد تم العثور على القطع الأثرية في 6 مقابر شمال أفغانستان في عام 1979 عشية الغزو السوفياتي للأراضي الأفغانية. والقطع تضم تاجا مصنوعا من الذهب لإحدى الأميرات الأفغانيات يعود تاريخه إلى أكثر من ألفي سنة، علاوة على تماثيل صغيرة وأحزمة وأساور وأباريق زجاجية مزخرفة وأدوات أخرى للزينة. والكنوز الذهبية الأفغانية لدى التطلع إليها تؤكد أنه حتى مع وجود حالة من الفوضى والعنف من الحرب هناك أمل. تلك هي الرسالة التي يعمل من خلالها منظمو معرض المتحف البريطاني بعرض كنوز أفغانستان القديمة، في بلد شهد حروبا لأكثر من ثلاثة عقود.
وتم حفظ مجموعة من القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن لفترات تاريخية تعود إلى نحو 4000 سنة، من الزجاج المطلي بالمينا، وكؤوس رومانية مذهبة، وتيجان من الذهب الخالص، وحجر مصقول، وأدوات مائدة من مصر. والفضل يعود إلى حفظ هذه الكنوز الفنية الأفغانية إلى مجموعة من المسؤولين الأفغان الذين خاطروا بحياتهم من إخفائها في فترة حرجة من تولي حركة طالبان الأصولية الحكم في البلاد عام 1996. ويقول الخبراء إنه عندما تولت طالبان الحكم في أفغانستان قامت بتدمير وتكسير ما تبقى من مجسمات في المتحف، حيث تم تكسير ما بين 2500 و3000 تحفة أثرية يعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي خلال عدة أشهر، وكان المتحف شبه مغلق أيام حكم طالبان. ويجاهد متحف الفنون في العاصمة، كابل، من أجل أن يقف على قدميه مرة أخرى، وتقدمه يعكس غالبا التحسن البطيء الذي يجري في بقية المجتمع الأفغاني منذ إسقاط نظام طالبان بقيادة الولايات المتحدة قبل 10 أعوام. ونظف العمال أكثر من 1500 قطعة وأصلحوا أكثر من 300 تعرضت للتخريب على يد طالبان، التي كانت تعتبر أن أي صور هي نوع من الكفر.
وبالعودة إلى الكنوز، فتبين القطع الأثرية المعروضة موقع أفغانستان الاستراتيجي على مفترق طريق يربط بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، أي على طريق التجارة الذي كان يعرف باسم «طريق الحرير»، حيث يتم كان تبادل السلع، بما في ذلك ورنيش من الصين، وعاج من الهند، وكماليات من مصر الرومانية.
والموقع الأثري الذي اكتشفت فيه هذه القطع الفنية والكنوز الأثرية كان من الثراء البالغ بحيث أطلق عليه اسم «تل الذهب»، وسرعان ما اكتسب مكانة أسطورية لم تلتفت إليه سوى قلة قليلة من الناس، قبل أن يتمكن فريق الآثاريين اليونانيين والروس ومجموعة من العاملين في المتحف القومي الأفغاني في العاصمة كابل، من اكتشافه. وكانت قد اختفت الكنوز من الموقع دون أي أثر لها، حيث اعتقد أنه من الممكن أن تكون قد تم صهرها وتهريبها في شكل سبائك من الذهب.
وكان المتحف الأفغاني في كابل قد تم إغلاقه ونهبت محتوياته، وتم احتلاله على يد الجماعات المسلحة، إلا أن الذهب لا يزال باقيا، حيث تم إخفاؤه داخل صناديق في المصرف الوطني الأفغاني.
ويقول أحد منظمي معرض لندن: «نحن نمر بفترة تاريخية استثنائية، حيث ينظر إلى أفغانستان باعتبارها بلدا في أدنى العالم ومنعزلة. إن العلاقات مع أفغانستان قديمة وموغلة في التاريخ». وأشار إلى أن لوحات عصر النهضة الإيطالية لم تكن لتظهر من دون اللون الأزرق السماوي من أفغانستان، وهو الذي يوفر درجات اللون الأزرق.
وتضم المعروضات قطعا فنية مستوحاة من حضارة بلاد الرافدين منذ ألفي سنة قبل الميلاد، وعناصر من العاج مستوحاة من الحضارة الهندية القديمة، علاوة على لوحات عهد الإسكندر الأكبر.
وقد توقف زوار المعرض مبهورين أمام التاج المصنوع من الذهب الذي عثر عليه في تيليا تيبي، الذي يمكن طيه لينقله البدو الرحل بسهولة، والذي تزينه خطوط وسوم معقدة تنتهي بخمس أشجار مستدقة الرأس؛ ومجموعة من الحلي الذهبية المصنوعة على شكل قلوب مرصعة بالفيروز، هي أيضا من تيليا تيبي، وقارورة على شكل سمكة بذيلها وزعانفها، من الزجاج الأصفر والأزرق، عثر عليها في باغرام، وتعود جميعا إلى القرن الأول للميلاد. وهناك قطعة أخرى من باغرام هي كتيفة متقنة تجمع في الوقت نفسه ودون أي تنظيم بين مملكة الحيوان والتأثيرات الثقافية. ويشاهد المرء عليها حيوانا أسطوريا له جسم أسد وجناحا نسر ومنقار ببغاء، وقد أخذ في الخروج من فم حيوان أسطوري آخر (يعرف باسم «ماكارا») يجمع بين التمساح والفيل والسمكة. والمعروف أن الحيوانات المجنحة كانت مألوفة في فن منطقة الشرق الأدنى، أما منقار الببغاء والـ«ماكارا» فيضفيان نفحة هندية مميزة إلى القطعة.
وهناك أكثر من قصة من معرض الكنوز الذهبية الأفغانية من الصعب تحديد أيها أكثر لفتا للنظر وإثارة للدهشة والإعجاب، فهناك الأعمال الفنية الرائعة نفسها، كالحلي الذهبية المرصعة بالفيروز والقطع الفنية المصنوعة من البرونز والعاج والزجاج الرقيق، وقصة المحافظة عليها خلال أيام الحرب والرعب من خلال إخفائها عن الأعين في مكان آمن. وتعود جميع القطع المعروضة إلى ما قبل ألفي عام أو أكثر؛ وقد صنع بعضها في عام 2200 قبل الميلاد. وكان يعتقد أنها إما فُقدت أو سرقت جميعا خلال عقدي النزاعات المسلحة والصراع اللذين بدآ قبل الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979 واستمرا إبان فترة حكم طالبان القمعي بعد طرد السوفيات. وقد تعرض المتحف الأفغاني الوطني نفسه في الواقع، الذي كان يضم معظم القطع المعروضة بين جدرانه، إلى هجمات بالصواريخ؛ مما أدى إلى إتلاف أجزائه الداخلية كلها تقريبا في عام 1994. إلا أن الأمر انتهى باكتشاف مذهل في عام 2002 بعد تنصيب حميد كرزاي رئيسا لأفغانستان.
وروى خبراء في الشأن الأفغاني لـ«الشرق الأوسط» كيف أن الرئيس حميد كرزاي الذي لم يكن القصر الرئاسي في حي وزير أكبر خان مألوفا لديه بدأ باستكشافه مع وزرائه، و«عندما وصل إلى قبو (سرداب) تحت الأرض يشكل بنك القصر، وجد أن أبوابه ما زالت مقفلة. وعندما توصلوا أخيرا إلى فتحها، وجدوا احتياطي البنك القومي تماما كما تُرك دون أن يمس، سبائك الذهب وأشياء أخرى كثيرة كان المرء يتوقع أن تكون قد سُرقت».
وعثر كرزاي، إلى جانب تلك الأشياء، على مجموعة من الصناديق التابعة للمتحف المحتوية على معظم الثروات الفنية التي كانت قد اختفت ولم يعرف مصيرها.
وكانت برامج بعثة «الناشيونال جيوغرافيك» قد أرسلت إلى كابل في عام 2004 للمساعدة في إدارة عملية جرد للقطع، وبخاصة الـ20 ألف قطعة ذهبية المعروفة مجتمعة باسم الذهب الباكتري (اليوناني) أو «الكنز الباكتري».
وكان المدهش أنه تمكن هو وزملاؤه من العثور على كل قطعة من قطع «الكنز» التي كانت قد سجلت في لوائح ووثق لها في عام 1979، بعد فترة قصيرة من اكتشاف عالم الآثار الروسي فكتور ساريانيدي القطع الذهبية في موضع ذخائر لبدو رحل في تيليا تيبي (أي هضبة الذهب).
وقد وصف كرزاي المعرض، في مقدمة كتبها للكتالوغ الغني بصور القطع الفنية، بأنه «أعجوبة».
ومضى قائلا: «عندما كنا رهائن في وطننا قبل 7 سنوات، لم يكن بإمكاننا حتى أن نحلم بأن أروع متاحف الفنون ستحتفي قريبا بتراث وثقافة أفغانستان الغنيين»، وأشار إلى أن هذه القطع الفنية التي كان يشار إليها في وقت ما في الماضي على أنها «كنوز أفغانستان المفقودة»: «لم تكن في الواقع مفقودة حقا، إطلاقا». وأردف موضحا في المقدمة: «تم إخفاء القطع التي لا تقدر بثمن في جميع أنحاء كابل، في الآبار الجافة وخلف الجدران المزيفة. وتمت المحافظة على تراثنا الثقافي وحمايته، بأعجوبة، بفضل مجموعة من الأبطال الأفغان البواسل غير الأنانيين. فقد كانت قطعة ذهبية واحدة منها ستكون بطاقة نجاة وهرب من الحرب والدمار اللذين ابتلي بهما بلدنا، إلا أنه لم يتم فقدان حتى قطعة واحدة». وأشار كرزاي إلى أن القطع المعروضة توضح موقع أفغانستان التاريخي «عند ملتقى الكثير من الحضارات»، في وسط طريق تجارة الحرير القديمة، وكحلقة وصل بين الصين والهند وبلاد فارس والشرق الأوسط والغرب.