الفيلم الروائي الأول للمخرجة السعودية هيفاء المنصور: طروحات وقضايا.. لكن هل من فن يحميها؟

يوميات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي ـ 3

المخرجة السعودية مع وعد محمد بطلة فيلمها «وجدة» الذي عرض أول من أمس في مهرجان فينيسيا السينمائي (إ.ب.أ)
TT

للمرّة الأولى في تاريخ المهرجانات الدولية الرئيسية - غير العربية، يتم عرض فيلم يحمل الهوية السعودية، كبلد منتج. سابقا عرض المخرج السعودي عبد الله المحيسن فيلمه الروائي الطويل الأول (والوحيد حتى الآن) «ظلال الصمت» في مهرجان إيطالي محدود، لكن «وجدة» هو الأول في هذا المجال، والأول لمخرجته التي تشهد وضعا إعلاميا مريحا كونها محط اهتمام النقاد ووسائل الإعلام لسببين واضحين: كونها تنتمي إلى بلد يعتبر فيه العمل السينمائي أمرا محفوفا بالمحاذير والصعاب، وكونها امرأة تنجز، على الرغم من ذلك الاعتبار، عملها الأول لتقدّم فيه قضية نسائية في وقت ما زالت مسألة قيادة المرأة للسيارة من عدمها تتردد في الاهتمامات الصحافية المرئية أو المطبوعة.

إنه وضع مريح الآن. العرض الأول للفيلم «الساعة العاشرة ليلا» لم يكن حاشدا، لكن عروضا أخرى كثيرة أيضا لم تكن حاشدة. على ذلك، وعلى الرغم من قيام شركة «بريتي بيكتشرز» بشراء حقوق توزيع الفيلم في فرنسا، فإن رد الفعل النقدي في الصحف الغربية لم يظهر بعد ليحدد ما إذا كان سيساعد الفيلم في مهمته الترويجية والتوزيعية أم لا.

بعيدا عن هذا المنحى، فإن «وجدة» كحالة منفردة، يحمل مزيجا من الإيجابيات والسلبيات بنتيجة نهائية تحمل ذات المزيج. في الأساس، فإن بطلة «وجدة» (ريم عبد الله) تشبه المخرجة السعودية التي تقدمها هيفاء المنصور في ناحية واحدة على الأقل؛ إذ تشاهد الفيلم ذا الـ95 دقيقة، يساورك الشعور بأن المخرجة إنما تتحدث عن نفسها من خلال بطلتها وأحلامها. الدراجة التي تطمح وجدة لركوبها، هي السينما التي كانت هيفاء المنصور تطمح لتحقيقها. كلتاهما أنثى تعيش في مجتمع محافظ. كلتاهما تجد تشجيعا محدودا وصدّا كبيرا. كلاهما تحقق ما تريد في النهاية.

«وجدة» هو الفيلم الروائي الأول للمخرجة الطموحة التي كانت حققت عددا من الأفلام القصيرة بعضها أفضل من بعض، لكن ليس من بينها ما هو رديء. على ذلك، تحقيق فيلم روائي طويل هو أمر مختلف. الأفلام القصيرة تستطيع أن تتخلـى عن شروط الرواية وعناصر القصة، لكن الفيلم الطويل ليس متحررا من الحاجة (إذا ما كانت الإجادة مطلبا) إلى تلك العناصر، إلا إذا أريد للفيلم أن يكون طليعيا أو تجريبيا أو منتميا إلى وضع سوريالي. وأول ما يلحظه المرء هنا هو أن ملكية المخرجة للكتابة (بما في ذلك كتابة الحوار) وصفية، ومن مصدر واحد يطغى بمواقفه على الجميع. فالأم تتصرّف حسب المنهج المرسوم لها، والمعلمات حسب المنهج المرسوم لهن. لا مناطق رمادية تثري الشخصيات، ولو أن ما يفعله الفيلم، ولو تعويضا، هو استخدام هذه المواقف الممنهجة كأنماط لإيصال رسالة مفادها العالم المحبط والممانع لبطلتها لمجرد أنها تحلم بأن تشتري دراجة (هوائية) تلعب بها.

تبدأ المخرجة فيلمها بلقطات على أقدام الفتيات المتوجهات إلى المدرسة. ثم تفتح على نحو عريض لتشمل الصف الذي تدرس فيه وجدة. ثم تتابعها إلى البيت وتعرفنا بوالدتها الطيبة وبأبيها الذي سترغمه أمه على الزواج من امرأة أخرى، لأن الأولى (والدة وجدة) لم تنجب له صبيا. الفيلم ينجح هنا ثم في المفاد الأخير المكون من مشاهد نهائية، في تسليط الضوء مزدوجا على مأزق (أو سمه أزمة إذا أردت) الفتاة والأم، فكما أن الأولى تمر في عنق زجاجة الوضع الاجتماعي المحافظ، مرّت الأم به، بل لا تزال، من خلال النظرة المتداولة، وهي أن على المرأة أن تنجب ولدا ذكرا لزوجها كشرط لاستمرار الحياة الزوجية من دون ضرّة (ربما).

بعد التمهيد يدخل الفيلم في توليفة من المشاهد المتكررة التي تعيد شرح وضع الفتاة في المدرسة وموقف المديرة المتجمدة صوبها نتيجة ما تراه خروجا لها عن التقليد، الذي يجب أن يُتّبع. فهي تطلب منها تغطية شعر رأسها، وتطلب منها تغيير حذائها (الملون إلى واحد أسود) وتصادر بعض ما كان في حقيبتها من صور وكتب تصفها بالغرامية (رغم أننا لا نرى وجدة تقرأها). وجدة لديها ابن عم اسمه عبد الله، ربما يصغرها بسنة أو سنتين، ويصاحبها أحيانا ما بين المدرسة والبيت؛ المسافة التي تشعر فيها وجدة بأنها حرة لدرجة أنها قد تغير طريقها إلى البيت، أو تركض الشارع مع ابن عمّها من دون خشية من عواقب أو محظورات. في أحد الأيام تشاهد الدراجة في محل فتقرر أن تشتريها. لا تملك بالطبع ثمنها ووالدتها لن تعطيها هذا الثمن، لأنها تعارض أن تقوم ابنتها بركوب الدراجة، لأن ذلك عيب اجتماعي.

هذا الفصل من الأحداث هو ما يمر باهتا، وهذا القول لا علاقة له بأهمية المضمون وطرحه، بل بالكيفية التي تصوغ فيها المخرجة حاجاتها من المشاهد، فإذا بها عامة، لا خصائص فنية لها لا تصويرا ولا توليفا ولا أجواء. إنه كما لو أنها تعتقد أنها تتوجه لجمهور إذا ما تعبت على مثل تلك العناصر خسرته. والتطوّر الذي يفاجئنا ليس في أن الفتاة الصغيرة تبدأ بجمع المال بطرق خاصة، مثل بيع بعض مقتنياتها أو تلقي مبلغ من المال لإيصال رسالة، ثم تلقي مبلغ مماثل ممن تسلم الرسالة، بل بالتبرير الذي توفره المخرجة لبطلتها لتفعل جل ما تستطيع. روائيا، ليس لدى هيفاء المنصور طريقة أخرى لتظهر اضطرار بطلتها لمثل تلك التصرفات كرد فعل للمنع الذي تواجهه حيال قيامها بشراء دراجة. لكن أن تفعل ذلك بتلك الخفة وبقدر من الخبث وافتعال الحذق يحوّل عنها صفة الضحية. تلك الابتسامة الماكرة، وهزة الرأس الهازئة، هما أكثر قليلا مما تحتاجه المخرجة لتبرير أفعال بطلتها.

هناك حكاية جانبية لا تترك إلا القدر المحدود من الأهمية بصريا ودراميا، على الرغم من أنها تضيف لطروحات الفيلم طرحا مهما آخر، وهو حكاية العلاقة بين المرأة الممنوع عليها قيادة السيارات، والسائقين الآسيويين الذين يوظفون هذا الضعف لمعاملة غير لائقة (مثل خروجهم عن اللياقة حين التعامل مع المرأة ورفع الصوت عليها.. إلخ). هذه المسألة معروضة بنفس الأسلوب العابر، لأن الهمّ هو عرض وطرح الموضوع، وليس إلحاقه بأسلوب بصري فاعل.

سيبقى الفيلم عملا مهما لصاحبته، كما سيلقى رد فعل إيجابيا مستندا إلى أنه أول فيلم سعودي لامرأة، لكن المسألة تبقى عند هذا الحد. لا استغلال للفرصة لإطلاق فيلم يمكن له، لجانب إثارة القضايا (وهو أسهل الأمور في كل الفنون)، طرح ما هو فني وإبداعي وتشكيلي في المقابل.

* بين الأفلام

* «تكفير» SHOKUZAI ***

* «تكفير»

* إخراج: كيوشي كوروساوا (اليابان)

* هذا الإنتاج المصنوع للتلفزيون في الأصل، هو الفيلم الأول للمخرج كيوشي كوروساوا (لا قرابة مع أكيرا) منذ أن قدم فيلمه الجيد «طوكيو سوناتا» قبل أربع سنوات. حكايات كوروساوا الجديد (هو كاتب المشروع) عميقة ومتشابكة وتأملية وطويلة، وأسلوبه يأخذ وقته، وهذا كلـه جيد لترسيخ الأفكار المتداولة حول 4 أصدقاء طفولة يكبرون من دون أن تبارح حادثة اغتصاب وقتل صديقة لهن مخيلاتهن. يحاولن انتهاج حياة هادئة، لكن ذلك لا يحدث كون والدة القتيلة كانت عزمت على أن تدفع كل فتاة منهن «كفّارة» عن إخفائها الحقيقة، فهن شاهدن القاتل وكن يستطعن التعريف به للبوليس. الفيلم المشاهد كونه تلفزيوني الحلقات يتداول حاضر كل فتاة على حدة، لكنه يربط تاريخهن ومصيرهن في عقدتين أو ثلاث على طول الخط. الديكور الذي يوظّفه المخرج للأحداث بارد كبرودة أجواء الفيلم، والتصوير بالـ«ديجيتال» يشعرك بأنك أمام فقر إنتاجي (رغم أن الأمر ليس كذلك). على الرغم من هذا، فإن محتويات اللقطة (تصوير أكيكو أشيزاوا) ومسافتها من الموضوع مرسومة بدقة ودائما موحية. إلى ذلك، ليست كل مراحل الفيلم متساوية.

هذا مفهوم كونه عملا تلفزيونيا قُدّم في حلقات ثم جمعت هنا لتأليف فيلم واحد. لا يعني ذلك أن متابعة الفيلم، على الرغم من ساعاته الطويلة، تصبح مرهقة أو مملـة. إذا ما فعلت فإن ذلك قد يعود إلى مشاهد غير معتاد على هذا النوع من الأعمال. المخرج يتمتع بموهبة إبقاء الاهتمام منصبا على ما لا تعرضه الكاميرا أيضا ما يضفي ثراء للعمل.

* سنوات الجندول1950

* الأسد الذهبي، في ذلك العام، انتهى إلى يدي المخرج الفرنسي أندريه كايات عن فيلم «العدالة تمت» حول محاكمة لعدد من القضاة الفرنسيين وأحكامهم الخاطئة بحق بعض الأبرياء. لكن المرء له حق التساؤل عما إذا كان قضاة لجنة التحكيم في تلك الدورة، برئاسة المخرج ماريو غرومو، أخطأوا الاختيار نظرا لأن الأفلام المشتركة كانت، في معظمها، أكثر أهمية، وربما أكثر جودة من فيلم كايات. فالمخرج الأميركي جون هيوستون عرض فيلمه الرائع «غابة الإسفلت» في تلك الدورة، وهو الفيلم الذي سريعا ما دخل كلاسيكيات السينما البوليسية ولا يزال. كذلك الحال بالنسبة لفيلم إيليا كازان «رعب في الشوارع» (رتشارد ويدمارك في دور طبيب يحاول منع كارثة وباء يحمله مجرم هارب). الإيطالي روبرتو روسيلليني أنجز «سترومبولي» الذي يُعاد اكتشافه اليوم على أساس أنه أحد أهم إنجازات المخرج الواقعي المعروف. في حين قدم روبرت روزن «كل رجال الملك» الذي وإن لم يكن أفضل من تلك المذكورة إلا أنه اقتنص أوسكار أفضل فيلم وأفضل ممثل (بروديريك كروفورد).

جائزة أفضل ممثل ذهبت إلى سام جوفي عن «غابة الإسفلت» (أداء معقول لكنه ليس أفضل أداء في الفيلم، وبالتأكيد ليس أفضل من أداء سترلينغ هايدن) في حين نالت إليانور باركر جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «محبوسة»: دراما من إخراج جون كرومول.

* لقطات

* وقع فيلم الافتتاح «الأصولي المتردد» لا يزال قويا بين الأوساط العالمية مع نسبة لا بأس بها من النقاد المعجبين بالفيلم. لكن المفارقة هي أن ناقد مجلة «فاراياتي» الأميركية جوستين تشانغ نشر نقدا سلبيا للفيلم في الوقت الذي نشرت فيه المجلة دعاياتها الإعلانية عنه. لا تناقض هنا، فقط مسألة لافتة.

|*| أفلام الأيام الثلاثة الأولى متنوّعة، لكن الزخم الذي يصاحب العروض لا يزال حذرا. ربما الحق على الأفلام: «رجل الثلج»، وهو فيلم أميركي مستقل الإنتاج من بطولة كريس إيفانز وجيمس فرانكو أخفق في أن يجد معجبين كافين. «بأي ثمن» للأميركي الإيراني الأصل رامين بحراني، قسّم الموجودين من حوله، كذلك فعل الروسي «خيانة» لكيريل سيرينبريكوف. الأكثر نيلا للإعجاب حتى الآن فيلم ياباني عرض خارج المسابقة بعنوان «تكفير».. المشكلة هو أنه فيلم مصنوع للتلفزيون.

|*| الجميع يتحدّث عن مهرجان تورونتو، وكثيرون سيشدّون الرحال في الخامس أو السادس أو السابع من (سبتمبر) أيلول للحاق بالمهرجان الكندي الذي يعد بالكثير في كل الجبهات. فهو يقع في مدينة كاملة لها مستويات من الثقافة والترفيه، ومستويات من التكلفة أيضا (النسبة الأكبر من الموجودين هنا تشكو من الغلاء) والأهم، أكثر من 350 فيلما تعرضه كما لو أن المهرجان هو كتاب ضخم من الصور. في العام الماضي رأيت أن تورونتو قد يكون المستقبل بين المهرجانات. هذا العام أقول: «هو المستقبل بين المهرجانات».