بعد عشر سنوات.. تماثيل بغداد تدفع فاتورة النظام السابق

النحات خالد المبارك: أعمال فنية كثيرة تتعرض للعبث وليس هناك من مراقب

معاول أمانة بغداد خلال تهديمها لتمثال المسيرة للنحات خالد الرحال («الشرق الأوسط»)
TT

أكثر من عشر سنوات مرت على عمر التغيير في العراق منذ الاجتياح الأميركي للبلاد عام 2003، حرص فيها المعنيون والسياسيون على إزالة كل ما يتعلق بحقبة النظام السابق للتخلص من أثاره وذكرياته، ولعل أهم تلك الآثار هي النصب والتماثيل في عموم البلاد، سواء التي مجدت لصور الرئيس المخلوع صدام حسين أو خلدت سياساته وأفكاره وحتى حروبه وغزواته.

وأثير جدل كبير ما زال مستمرا حتى اليوم، بين أطراف عدة بشأن النصب والتماثيل المطلوب إزالتها، وشكلت بموجبها لجنة خاصة تابعة للأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي، حملت عنوان «لجنة إزالة النصب والتماثيل» وبين النصب الجديدة المزمع تنفيذها بديلا عنها وأماكن توزيعها أيضا.

وبين ذلك عاشت نصب وتماثيل مناطق وشوارع بغدادية معروفة، كانت عنوانا مهما لملامح المدينة، شيخوخة مبكرة، وإهمال كبير من لدن الجهات المعنية، إضافة إلى ممارسة أعمال التخريب المقصود لبعضها من قبل جهات مجهولة مستغلين غياب الاستقرار الأمني في فترات معينة.

ويمكن للمتجول في أنحاء العاصمة أن يلحظ الإهمال والخراب الذي حل بأهم ساحتين في وسط العاصمة بعد إزالة النصب التي توسطتها سنوات طويلة وحملت اسم المكان، وهما تمثال ساحة الفردوس في شارع السعدون، والذي حمل رمزية سقوط بغداد على يد قوات الاحتلال بعد إسقاط تمثال ضخم للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وساحة نصب المسيرة في منطقة العلاوي، وهو عمل ضخم نفذه الفنان الراحل خالد الرحال، ويمثل مسيرة حزب البعث، ولم يتبق منه سوى قاعدته التي احتلت مساحة واسعة من العمل ذاته لكنها ما تزال جاثمة فيه وعلامات التخريب والإهمال تحيطها من كل جوانبها.

وسبق أن هدمت معاول لجنة إزالة نصب وتماثيل النظام السابق، عددا من النصب التي شكلت إحدى أهم معالم العاصمة العراقية كونها تمجد لحزب البعث المحظور ونظامه الذي حكم البلاد أكثر من ثلاثة عقود. وأهم تلك النصب قوسا النصر من تصميم النحات خالد الرحال والوحدة الوطنية ونصب اللقاء في حي المنصور الراقي للفنان الدكتور علاء بشير، مع أنه نصب إنساني عاطفي لا علاقة له بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، ونصب بلاط الشهداء للنحات والمعماري عدنان أسود في مدرسة (بلاط الشهداء) بحي الدورة والتي كانت قد تعرضت لقصف صاروخي إيراني إبان الحرب العراقية الإيرانية أودى بحياة العشرات من طلاب المدرسة الابتدائية، ونصب والأسير العراقي وتماثيل الضباط الذين شاركوا في انقلاب عام 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني ومجموعة من التماثيل لشهداء عراقيين قضوا في حرب الثماني سنوات مع إيران والتي نصبت على شط العرب في مدينة البصرة الجنوبية وهم يؤشرون بأيديهم إلى إيران.

عن أهمية النصب والتماثيل في بغداد، وصيانتها ودور الجهات الفنية المختصة في إجازة الجديد منها، قال جمال العتابي مدير عام دائرة الفنون التشكيلية في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «ضمن فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية، هناك مشروع لصيانة كل النصب والتماثيل في مدينة بغداد، بتخصيص مالي ممتاز نحو (130) مليون دينار عراقي، وبدأنا بالتنفيذ منذ أشهر وأنجزت معظم الأعمال وتبقى فقط أربعة أعمال خاصة للصيانة حاليا».

وفيما يخص توزيعها، والأعمال الجديدة منها، قال: «هناك لجنة مسؤولة تعود للأمانة العامة لمجلس الوزراء، تضم ممثلين لوزارات الثقافة والإعمار والإسكان، وأمانة بغداد ومجلس محافظة بغداد والمحافظة مهمتها الموافقة على إقامة النصب والتماثيل الجديدة، وإعادة النظر بالنصب والتماثيل الموجودة في بغداد».

وشكا العتابي من إهمال إشراك ممثل لدائرة الفنون التشكيلية، ضمن كادرها، وتهميش دورها كونها صاحبة الرأي، معربا عن إقدام الدائرة على تقديم الكثير من الملاحظات على النصب والتماثيل الموجودة لكنها لم تتحقق، كما أن هناك عقبات كثيرة تواجه عمل الدائرة فيما يخص تحديد أماكن النصب بسبب ارتباطها وتداخلها مع مخططات أمانة بغداد الجديدة.

ولفت: «أن الوزارة تصدت مثلا للآراء التي وجهت بإزالة نصب النسور في بغداد، وأكدت عدم علاقتها بفترة النظام السابق أو أفكاره، كونه أحد أعمال الفنان الراحل ميران السعدي وهي تمثل بدايات تأسيس الحداثة في الفن العراقي».

وحول الانتقادات الموجهة لدائرة الفنون بشأن توزيع بعض النصب والتماثيل في أماكن غير مناسبة مثل النصب الضخم (التالية) لإسماعيل فتاح الترك والذي يمثل نخلة فتية منحوت من المرمر الأبيض وكان موقعه الأصلي الفضاء الداخلي لقصر المؤتمرات الذي أصبح مقرا للبرلمان العراقي، وهو من النصب الفنية النادرة والمهمة بتاريخ الفن التشكيلي العراقي، ويحتل حاليا ضيفة من مدخل وزارة الثقافة وبشكل لا يليق بالعمل، قال: «هناك مشروع جديد لنقل العمل ضمن ساحات وفضاءات الوزارة، ووجوده فعلا غير مناسب لضيق المكان. وبشأن نصب المسيرة في منطقة العلاوي فأكد وجود مشروع بديل للمكان، ويتمثل بعمل فني يجسد واقع بغداد، وحضارتها وتأريخاها وماضيها وموروثها، لكني لا أعرف موعد إنجازه».

الفنان التشكيلي خالد المبارك، قال: «أهم ما تميزت به بغداد هو ساحاتها وميادينها ونصبها التي تحكي تأريخ وحقب مهمة عاشها العراقيون، ولا بد من المحافظة عليها باعتبارها شاهدا مهما على أحداث وذاكرة المكان، وموروث البلد وأهم الأحداث السياسية فيه، وعلاقتها بالأشخاص وحكاياتهم وقصصهم وغيرها».

وأضاف: «أعمال فنية كثيرة تتعرض للعبث والإهمال وليس هناك من مراقب لما يحصل لها، واستشهد المبارك بعمله النحتي الكبير في محافظة بابل، الذي اختير كأفضل عمل نحتي خلال مسابقة فنية أقيمت عام 2008 واختيرت له ساحة مهمة في المحافظة، لكنه يعاني الإهمال اليوم، وحاجته إلى الصيانة وقامت جهات مجهولة بإضافة بعض الأسيجة الحديدية وسعفات النخيل على جانبيه بشكل أثر على قيمته الفنية، ولم تنفع كل المطالبات والمناشدات للاهتمام به، وهو حال معظم النصب والتماثيل اليوم».

وتحسر المواطن زهير الفتلاوي، 54 عاما، على حال نصب وتماثيل بغداد، التي لم تعد ملاذا للراحة والاسترخاء ولم شمل الأهل والأصدقاء، إذ إن المفخخات أخافت الجميع وألزمتهم البيوت، وصادر إهمال تلك النصب جماليتها التي كانت أهم ملامحها، واكتفى الطالب الذي كان يلجأ لساحات وحدائق تلك النصب بالدراسة في البيت.

في حين نبه المواطن أيسر سعدون، على أهمية صيانة الكثير من النصب المهمة ومن بينها نصب الحرية للفنان جواد سليم الذي أهملت الكثير من جوانبه وهو عرضه للانهيار بسبب تقادم الزمن عليه وأثار المياه الراكدة تحته.

ويخشى العراقيون أن تطال يد التخريب نصب فنية رائعة ومهمة وتشكل رموزا فنية ووطنية وتاريخية مثل نصب الحرية للنحات جواد سليم الذي يعتبر علامة فارقة لبغداد وهو يقوم وسط ساحة التحرير في قلب العاصمة العراقية، ونصب الشهيد للنحات إسماعيل فتاح الترك والذي فاز بجوائز عالمية، ونصب الجندي المجهول للنحات خالد الرحال، والخشية على النصبين الأخيرين أكثر كونهما قاما في سنوات الحرب العراقية الإيرانية.