د. محمد حسين: نظام حمورابي المائي حافظ على مياه اليوم.. ورواسب دجلة والفرات 5 أضعاف النيل

جيولوجي يربط بين إنجاز عجائب الدنيا السبع قديما وتوفر مصادر للمياه

TT

اعتمدت الحضارات الإنسانية منذ بداياتها على مصادر المياه العذبة التي تمثلها الأنهار والبحيرات فأقدم الحضارات الإنسانية قامت في أودية الأنهار الكبرى في العالــم، كنهر النيل، نهري دجلة والفرات، نهر الأردن، النهر الأصفر، نهر الهندوس، نهر الاواقا وخلافه. صفحة المياه لهذا الاسبوع التقت بالدكتور محمد طاهر حسين الاستاذ المشارك بجيولوجيا المياه بجامعة الملك سعود بالرياض للحديث عن دور المياه في قيام الحضارات الانسانية القديمة فالى تفاصيل الحديث..

استهل الدكتور محمد حديثه مع «الشرق الأوسط» بإشارته إلى أن قيام الحضارات الإنسانية القديمة ارتبط بمصادر المياه وكانت هــذه الحضارات تعتمد معظمها على الأنهار الكبيرة مثل نهر النيل، نهري دجلة والفرات، نهر الأردن، نهر القانج، نهر الهندوس، نهر الأمازون، النهــر الأصفر، نهر هوانج هي... الخ. مبينا أنه إذا ما نظرنا إلى الحضارات الإنسانية القديمة ربما نلاحظ هنالك علاقة بين تاريخ نشاط هذه الحضارات وأهمية الأنهار التي قامت عليها. فمثلا وعلى ضفاف أطول الأنهار في العالم قامت الحضارة النيلية القديمة منذ نحو 3000 سنة قبل الميلاد.

وأخبرت دراسة الآثار أن الحضارة السومرية نشأت في الفترة من 3500 إلى نحو 2000 عام تبعتها الحضارة البابلية في 2000 ق. م. ونشأت الحضارة الهندية في الفترة بين 2500 إلى 1500 ق. م.

وأضاف الدكتور محمد ان كل الحضارات القديمة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بتوفير مصادر للمياه تمدها باحتياجاتها شرقاً منذ أسرة شايخ وزيا في الصين منذ نحو 2000 ق. م وحتى أقصى الغرب في المكسيك حيث قامت حضارة اولم منذ نحو 1500 ق. م. ومن مظاهر هذه الحضارات القديمة وتخليداً لها قام الإنسان بمشاركات حضارية كبيرة حاول تخليد بعضها كما جاء في عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وهذه العجائب تمثلت في أهرامات الجيزة التي بنيت في الفترة ما بين 2680 ـ 2544 ق. م في عهد الأسرة الفرعونية الرابعة، حدائق بابل المعلقة والتي بناها الملك نيبوشادنيزار الثاني في حوالي 600 ق. م، تمثال زيوس والذي بني في حوالي القرن الخامس ق. م في اليونان، وهيكل ارمتيز والذي تم بناؤه في عام 256 ق. م، في اليونان وتم تدميره في عام 252 ق. م، مقبرة الملك موسوسلوس على بحر ايجة، تمثال رودس ومنارة الإسكندرية والتي بنيت حوالي 280 ق. م، وتم تدميرها في القرن الرابع عشر. كل هذه العجائب السبع القديمة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالحضارات التي نشأت واعتمدت على مصادر المياه.

وأشار الدكتور محمد إلى أن الأهالي في مصر القديمة أقاموا أول المجمعات الزراعية المستقرة وأنجزوا على نهر النيل تطوراً زراعياً لم يكن معروفاً من قبل، وبدأ هذا التطور في عمليات الري في مصر فيما قبل المملكة القديمة حوالي 3400 سنة قبل الميلاد.

ويعود الفضل لما سمي (بري الأحواض) في النظام الفرعوني القديم إلى أيام الملك مينا، وهو حسب المخططات المصرية القديمة أول فرعون حاول تجميع مياه النيل والسيطرة على الفيضانات. وتكون النظام الفرعوني لدى الأحواض من تقسيم السهل الفيضي إلى مساحات يحدها عدد من العوائق الترابية تتراوح مساحات هذه الأحواض من الف إلى أربعة آلاف فدان. وفي اثناء الفيضان تمتلئ هذه الأحواض بمياه النهر الفائضة.

وتحفظ هذه المياه في الأحواض بفعل المداخل التي على العوائق الترابية، وبعد أن تتشبع الأرض تماماً يتم تصريف المياه الراكدة إلى أحواض في منخفضات اقل أو إلى النهر مباشرة حيث تتم بعد ذلك زراعة هذه المساحات المشبعة بالماء، وفي كل عام تأتي مياه الفيضانات بالطمي الغني بالمواد العضوية الذي يغذي الأراضي ويتسبب في ارتفاع سطح الأرض. ولقد بينت الحسابات المبنية على قراءات متصلة لترسيب الطمي منذ أن دخل العرب مصر حوالي 1300 سنة ميلادية بلغت حوالي 8 اقدام.

وإذا ما عممنا هذه الحسابات يمكن القول بأن السهل الفيضي في النيل ربما كان اقل حوالي 20 قدما من مستواه الحالي. ولقد واجه المصريون الأوائل مشكلة الارتفاع المحتمل للفيضان وبالتالي المساحات المعرضة لأن تغمرها مياه الفيضان. لأنه كلما ارتفع الفيضان، كانت المساحات المعرضة لأن تغمر بالمياه مساحات اكبر وبالتالي من الممكن زراعتها.

وقد يتمكن الفيضان العالي من كسر العوائق الترابية للأحواض وإذا ما حصل هذا قد تغمر هذه العوائق والمساحات الممكن ريها تقل، وبالتالي فانه كان غير مناسب لو ارتفع الفيضان كثيراً أو لو قل كثيراً.

وتابع الدكتور محمد حديثه بأن المصريين وتحت ظروف هذه المعطيات تمكنوا من أن يضعوا نظاماً لقياس وتسجيل مستويات مياه نهر النيل في نقاط عدة ليتمكنوا من مقارنة القراءات اليومية للنهر مع سجلات السنوات السابقة، وبناء على هذه المعلومات كان يمكنهم التنبؤ بمستويات المياه للنهر في أي نقطة تقع أسفل النهر. وفي الأسرة الثانية عشرة (2000 ق. م) كانت البيانات مسجلة في اعلى النهر حتى الشلال الثاني (وادي حلفا) على صخور تم اكتشافها. وقد كانت هذه المعلومات المسجلة اعلى النهر ترسل إلى الفرعون وهكذا كانت تتم الاستعدادات لاستقبال مستويات المياه العالية في موسم الفيضان.

وربط الدكتور محمد ذلك بما يتم الآن في القرن الواحد والعشرين حيث يتم تسجيل مستويات النيل الأزرق عند دخوله إلى الأراضي السودانية في محطة الديم وفي الدمازين وفي الخرطوم وفي دنقلا وفي وادي حلفا حيث ركبت أجهزة قياسات تدفق النهر ومستويات المياه فيه. وتقوم هيئة مياه النيل في البلدين بنقل البيانات إلى جهات الري المسؤولة عن التنبؤ والرصد لأخذ الاحتياطات والتجهيزات اللازمة وقد نجحت هذه التنبؤات والتجهيزات في معظم أوقات فيضان النيل حتى اليوم إلا ان هنالك بعض السنوات غير الطبيعية كما حصل في فيضان 1988 في السودان.

وانتقل الدكتور محمد بعد ذلك بحديثه إلى ما شهدته منطقة ما بين نهري دجلة والفرات من تنمية شبيهة لتلك التي شهدتها منطقة وادي النيل في فترة ما قبل السوميريين مشيرا إلى أن هنالك أدلة على انه بزمن طويل قبل 3000 قبل الميلاد، أن الاهوار في المناطق المنخفضة من الخليج وعلى طول المناطق المنخفضة من الفرات. ولقد تعلم الإنسان في هذه المنطقة كيف يقوم بتصريف وري المياه بواسطة القنوات.. ويمكن حتى الآن مشاهدة آثار هذه القنوات من على الطائرات.

ولعل مشاريع الري والتصريف هذه كانت أكثر تطوراً من تلك التي شهدها وادي النيل. وذلك بسبب أن هيدرولوجية النهرين التوأمين دجلة والفرات معقدة أكثر من نهر النيل واقل تنبؤاً من النيل. ومن ناحية أخرى فان مياه دجلة والفرات تحمل خمسة إضعاف ما يحمله النيل من الرواسب.

وأضاف الدكتور محمد «بالتالي فان ما تحمله القنوات ونظم التوزيع من طمي ورواسب يطمس كثيراً من حدود الأراضي والحاجة إلى ترميم وإعادة بناء القنوات تكون مستمرة. ويحمل النهران مياها غنية بالأملاح والمعادن أكثر من تلك التي يحملها نهر النيل وبالتالي تحتاج المنطقة إلى ري مكثف وغسل للتربة وتصريف جانبي أكثر مما يحتاجون في مصر».

وتابع الدكتور محمد لقد كانت الفيضانات في منطقة ما بين النهرين بصورة سنوية ما يترتب عليها من خواطر غير متوقعة. وكان إذا ما توافق ارتفاع مياه النهرين في نفس الوقت فكانت المياه تغمر الأراضي. وكان الخوف من الفيضانات الهاجس الأكبر للسومريين ومن بعدهم البابليون ومن جاء بعدهم. ولعل قصة الفيضان الكبير في قصة سيدنا نوح تعود إلى اكبر فيضان اتى على هذه الأرض. وهذه الإخطار هي التي دعت إلى إقامة البلدان والمدن واحاطتها بالاسوار والحوائط في تلك الفترة القديمة من تاريخ الحضارة الإنسانية ولقد ساعدت هذه الاسوار والحوائط على حماية المراكز الحضرية في زمن الفيضان كما ساعدت أيضا لحمايتها من الغزاة. ولعله تجدر الاشارة إلى أن الفرس والذين جاؤوا من المرتفعات العالية لم يشيدوا المدن ذات الأسوار إلا بعد أن احتلوا بابل.

وأشار الدكتور محمد إلى ان احتلال حمورابي لبلاد ما بين النهرين في حوالي 1760قبل الميلاد أدى إلى نظام مركزي قوي في تحكم المياه. ولقد كان العديد من القوانين التي نص عليها متعلقة بالري. فلقد ألزم كل مالك أن يتولى صيانة الجزء الخاص به من الحائط الترابي والحوض الذي يخصه، وإذا لم يف بالتزاماته فعليه بتعويض جاره إذا ما تعرض لإضرار بسبب الفيض. ولقد حررت المكاتيب الملكية للحكام المحليين التي توضح أن كل إقليم مسؤول عن القنوات التابعة له وعن صيانتها بما في ذلك نظافة القنوات وأحواض الري.. وكانت الأوامر بان يتم كل ذلك في فترة زمنية محددة.. ولا شك كان ذلك تقدماً كبيراً في الاهتمام بمصادر المياه في الأراضي الجافة ولا زال اثر حمورابي في تنمية المياه في هذه المناطق متطوراً حتى اليوم. ولقد ظل هذا النظام البديع للقنوات والري في منطقة النهرين فاعلاًُ حتى أتت الهجمة التترية للمغول والذين قاموا بهدم كل نظم الري في هذه البلاد والتي ظلت تعمل لمدة أكثر من 4000 سنة ولقد تم نقل هذه التقنيات التي كانت مستخدمة في مصر وفي بلاد الرافدين إلى الأجيال اللاحقة سواءً شفاهة، بالممارسة أو بالتدوين أو بكل هذه الطرق مجتمعة هذه التقنيات والوسائل التي كانت مستحدثة في مناطق جافة من العالم.

وأوضح الدكتور محمد بحديثه إلى انه كانت هناك تنمية وتطوير لمصادر المياه موازية لتلك التي كانت في وادي النيل، وفي بلاد الرافدين.. هي التي بدأت في وادي النهر الأصفر في الصين وفي نفس الوقت تقريباً واستمرت حتى يومنا هذا.

ومعرفتنا بالتطورات والتقنيات الصينية في هذا المجال بسيطة لعدم توفر السجلات المقروءة لنا سواءً باللغة العربية أو اللغات الغربية. وفي أوروبا وحيث ولدت ونمت الحضارة الغربية الحديثة لم تكن الحاجة كبيرة لكثير من الجهد فيما يخص الحصول على المياه فقد كانت دائماً المدينة هي المستهلك الأساسي للمياه ولم يكن الري يحتاج لجهود كبيرة حيث توفره الإمطار طوال الوقت وهي كافية لري المحاصيل. في بداية الفترة المسيحية كان اكبر نظام لإمداد المدن هو الذي كان موجوداً في روما، ولقـــد دون محافظ مياه روما في ذلك الوقت Julius Frontinus 97-103 بعد الميلاد وكان المحافظ مسؤولاً عن تشغيل وصيانة ثماني قنوات تمد روما بالمياه في ذلك الوقت. خمس من هذه القنوات كانت تتغذى من ينابيع أو أبار ارتوازية والبقية من مجار مائية سطحية. ولم تكن هناك إمدادات مياه منزلية خاصة.