«ريم النهاري» في مصارعة اللهب.. العين في وجه المخرز

كيف نجا جيل من أجساد الفراشات؟

ريم النهاري اختارت الموت لتهب الحياة لغيرها
TT

ضربت ريم النهاري، بتعليمات الدفاع المدني عرض الحائط، في ضرورة الجثو على الأرض لتفادي استنشاق أدخنة الحرائق حال حدوثها، وامتشقت المعلمة بقامتها لإنقاذ جيل بأكمله من براعم الوطن، فهؤلاء الطالبات رضعن العلم والأخلاق من جفنيها.

وآثرت الشهيدة أن يكون جسدها في مواجهة مباشرة مع الموت، وكومات الدخان، التي قهرته وصرعته أرضا، في ذات الوقت الذي كان باستطاعتها أن تنفض من الحشد والتجمهر بسلامة جسدها، بيد أن حياة الطالبات أمانة في عنقها، مفضلة أن تهب روحها قربانا إلى الله من أجل أن يحيا في سبيل ذلك فلذات الأكباد ودعائم المستقبل.

ريم النهاري، معلمة الأجيال، ذات الخمسة والعشرين ربيعا، ضربت أروع فصول التضحية، وبنت ملاحم من بطولات، وهي تستمرئ مرارة الموت بغية الحفاظ على جيل كرست نفسها وهي تعلمه وتربيه وتشربه الأخلاق والفضيلة وحب الوطن ومخافة الله في السر والعلن، قاتلت وناضلت حتى اللحظات الأخيرة كيلا تحترق أجساد البراعم اللائي توحدهن الدخان وألسنة اللهب.

ألقت النهاري بجسدها لتنجو بعد أن تأكدت من سلامة جميع الطالبات من دون استثناء، بيد أن جسدها الطاهر الذي حمل كنوزا من نور، لم يستطع النجاة، فوقعت من علٍ بعد أن فج رأسها، لتلقى بعدئذ حتفها وهي مسجاة بالإحرام الأبيض الذي كان جسدها الطاهر أبيض منه، كاتبة فصول النهاية حيث تتدثر الأخلاق بالعلم، ومشاعل النور بومضات الإيمان.

ولأنه «إذا كانت النفوس عظاما، تعبت في مرادها الأجساد»، لم يستطع جسد المعلمة البقاء، فآثر الرحيل، لأن نهاية العظماء لا تكون عادية، فذات الجسد الذي حمل أول أكسيد الكربون الخانق هو ذات الجسد الذي تفتق بالعلوم، وانتشى بالعلم الذي اندلق من عروق بناة الأجيال في أجل المهن وأعظمها عند الخالق سبحانه.

ريم النهاري بفدائيتها، تفردت بكل نماذج الأخلاق والسمات البطولية، فروحها الطاهرة التي صعدت لبارئها، كانت رسول العلم وتاج المعرفة، فلا شيء سيعدل أنموذجها الفدائي، وهي تجسد الدور البطولي الصادق في مواجهة مفتوحة مع الموت، وهي تطلب في ثناياه الحياة لطالباتها التي لا تتورع البتة في تسميتهم «بناتي»، كانت تقولها وهي تعي جيدا دور الأم قبل المعلمة، حين تهب حياتها إزاء أي مواجهة أو مخاطرة أو ألم.

وحين يوصف أرباب التعليم، المعلمين والمعلمات، ببناة الأجيال، ولبنات الحضارة، فذلكم الوصف هو كناية على علو المكانة، وهو ما برهن عليه حديث مدرسة جدة حين وضعت المعلمات أجسادهن كسواعد، ولو كانت النفوس المؤمنة تتعلق بالعدوى والطيرة، لفسر البعض سوداوية المشهد بالاتساق مع سوداوية السماء في ذات اليوم، التي آذنت منذ وقت مبكر بإمكانية هطول أمطار غزيرة، تداعت لها قلوب أولياء أمور الطلبة على اختلاف أماكنهم، إلا أن ألسنة اللهب كانت أشد قسوة من حالة الطقس التي كشفت عن مرارتها وحدة مخلبها.

صراخ الأطفال الذي وأدته ألسنة اللهب والغاز السام من أول أكسيد الكربون، كان عنوان الألم الذي تسربل في مشارب وعروق جدة، عروس البحر الأحمر، التي شاخ جمالها، وهي تهرع خائفة عند تحليق سحابة مكومة بالسواد، لتأتي الأخبار بنذير شؤمها من حيث لا تدري تلك المدينة الحالمة، ولتكون ساحة الألم متوسدة ثنايا المدرسة الأهلية في حي الصفا.

وقرعت الحادثة سيلا مختلطا بين الألم وجذوة الهرع التي أصابت الرجال حول الكارثة، لتتثاقل أجسادهم بما حملت، موعزة بأن يكون المصاب والجلل يسيرا ورؤوما بأكوام الحنان التي اختزلتها دهاليز المدرسة الأهلية، وهي تتصبح إشراقتها بضحك الوجنات، وحنان المعلمات وهن يدرن داخل مدرستهن كخلية نحل مستشرفات طلباتهن وصرخاتهن الاعتيادية، فما بالك حين ينقلب المشهد لتكتنف الصرخات بالاختناقات وألم العبرات! بيد أن ألسنة اللهب وأكوام السواد كانت أشد نزعا للأرواح من صدورها، وقطعت الطريق أمام نسائم الرحمات من لواعج المعلمات، وهي تنبري ألما وغصة فالمشهد يحمل في طياته كل معاني الأمومة، وكل توثبات الحنان وتلافيف الرحمة التي جسدت بثبات في المنظر الأخير للوداع المحزن.