السعودية تطرق المجتمع المعرفي عبر نوافذ التعليم الكورية

أفنان الشرق الأقصى «يانعة» تنتظر قطاف المؤسسات التعليمية

التعليم يرتكز على الإبداع.. والتقليدي غير ملهم لتطلعات الطلاب (تصوير: خالد المصري)
TT

أعلنت مؤسسات رسمية سعودية أنها ماضية قدما نحو جسرنة التعليم في السعودية نحو الاقتصاد المعرفي، طارقة في ذلك المنحى أبواب دول معرفية لدراسة عصرنة المناهج المعرفية بغية تحقيق مواءمة فعلية لتفعيل احتياجات المجتمع المعرفي، ومتطلبات سوق العمل.

وشرعت تلك الجهات نحو اختيار البوابة الكورية، نظير النتائج المتقدمة التي وصلت لها، وفي ظل ما تشهده السعودية في السنوات الأخيرة من تحقيق قفزات تنموية هائلة من أهمها رفع مخصصات التعليم من الميزانية العامة. ويعكس ذلك تطلع الدولة للتحول نحو الاقتصاد المعرفي المعتمد على العلوم والابتكار كوسيلة تدعم الاقتصاد السعودي بإحقاق نقلة هائلة نحو تحويل السعودية لمجتمع معرفي متقدم.

ويعد التعليم هو الركيزة الأساسية لبناء القدرات ونقل المعرفة وتراكمها للتحول نحو الاقتصاد القائم على المعرفة من خلال تطوير نوعية التعليم والمناهج وتأهيل المعلمين في أكثر من 33 ألف مدرسة سعودية، إضافة للتوسع في نشاطات تنمية المهارات والابتكار. وعلى ذلك جرى توقيع اتفاقيات تعاون دولية تطلعا لنقل المعارف والعلوم والاستفادة منها، كالتجربة الكورية النموذجية في تطوير مراحل التعليم العام، وما رافق تطوير التعليم العام من مواكبة للغة العصر بربطه بالجانب التقني في إلحاق الفصول بالحاسبات والأجهزة اللوحية لكل طالب.

وقد عكفت وزارة الاقتصاد والتخطيط بالسعودية على الإعداد للاستراتيجية الوطنية للتحول لمجتمع معرفي، والتي تتضمن رؤية وبرامج ومشاريع للاستفادة من التجربة الكورية الناجحة في هذا المجال، حيث ذكر الدكتور محمد الجاسر، وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، في محاضرة الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي التي عقدت في مطلع أبريل (نيسان) الحالي بالغرفة التجارية بالرياض، أن التطور النوعي للقوى البشرية الوطنية مرتكز أساسي يوضح ملامح تلك الرؤية. ومن هنا يجب التركيز على تطوير المستوى العلمي والتركيبة المعمارية للقوى العاملة من خلال نظام تعليمي وتدريبي مواكب يتمتع بكفاءة منهجية عالية قادرة على الاستجابة لاحتياجات سوق العمل الآنية والمستقبلية، وهذا حتما يتطلب استثمارا لتطوير البنية العلوية والتحتية لمختلف مراحل التعليم، بما في ذلك المختبرات والورش وتجهيزها بالآلات المتطورة. كذلك تنويع هيكلة الاقتصاد الوطني وتعزيز قدرة التنافسية، وأهم مرتكز هو الاقتصاد القائم على المعرفة وتوسيع نطاقها وتكثيفها من خلال عدة منجزات.

وعقب الدكتور الجاسر بأن «الطريق لا يزال طويلا لبلوغ مرحلة تكون فيها غالبية الاقتصاد الوطني قائمة على الاستخدام المكثف لأحدث منجزات العلوم والتقنية، ولتشكل المعرفة والابتكار فيه عنصرا أساسيا وقوة كامنة للإنتاج النوعي». ويرى الدكتور الجاسر أن عامل ارتفاع الفئة العمرية في السعودية من 15 - 65 سنة إلى أن شكلت معدل 61 في المائة من نسبة السكان في 2011، جعل لهذا التركيب العمري السكاني في السعودية فرصا أكبر للفئات الشابة للادخار والاستثمار وتحسين الأوضاع المعيشية إذا تمكنوا من استغلال طاقاتهم في العمل والبناء ورفع مستوى التعليم والخبرة لديهم، على اعتبار النقلات العددية التي خطت لها السعودية في سبيل نشر التعليم بكل مستوياته بما في ذلك افتتاح أكثر من 51 جامعة حكومية وأهلية ومعاهد متخصصة.

وجاء ذلك في سبيل تحقيق أحد الأهداف العامة لخطة التنمية التاسعة في السعودية التي تسعى لتهيئة بيئة مواتية للتحول للاقتصاد المبني على المعرفة من خلال توفير فرص التعليم ورفع معدلات الالتحاق بمراحله المختلفة، وتطوير النظام التعليمي ليواكب المعارف المتجددة، لتكون المعرفة هي العامل الرئيسي في النمو وتكوين الثروة والتوظيف في مختلف القطاعات التنموية، لتكون القوى العاملة ركيزة في الابتكار والإبداع، فضلا عن أن بيئة الاقتصاد المعرفي لن تتحقق إلا في تهيئة بيئة مناسبة لإدارة المعرفة هيكليا وتقنيا وقانونيا وعند الارتقاء بالمستوى المعرفي لأفراد المجتمع.

عبد الرحمن مازني، خبير في تقنية المعلومات والاتصالات، ذكر لـ«الشرق الأوسط» أن الاقتصاد السعودي يعاني من اعتماده الكامل على البترول كمصدر أساسي، فالاعتماد على مصدر واحد ناضب يشكل خطورة على الاقتصاد الوطني. ويذكر أن «الاقتصاد المعرفي عامل مساعد في تنويع مصادر الدخل، فيكون عامل توازن في الاقتصاد السعودي كونه يعتمد على العقل والإنتاج الفكري الذي ينتج عن المعرفة المتكاملة والإبداع والتطوير. فكلما توجهنا للاقتصاد المعرفي سنقلل الاعتماد على البترول. وأشار مازني إلى أن الاقتصاد الكوري في السبعينات كان معدل دخل الفرد فيه أقل من دخل الفرد في مصر، واليوم يصل إلى ما لا يقل عن 15 - 20 في المائة، نتيجة تحول اقتصادهم المعرفي إلى دولة متقدمة جدا في الابتكار والإنتاج والتصنيع في مجال التقنية والإلكترونيات».

ومن جانب قانوني، ذكر الدكتور أحمد الصقيه، القاضي بديوان المظالم، أن نهضة المعارف وقيام اقتصاد مبني على المعرفة يتطلبان وجود مراكز علمية بحثية تنمي الثروة الوطنية المعرفية، ولا تتحقق النهضة بهذه الثروة إلا بحماية قضائية تشجع على قيامها بمشاريعها البحثية والتقنية، موضحا أن «قيام القضاء على الشريعة الإسلامية يحتم عليه حماية الملكية الفكرية والإنتاج المعرفي، وقد صدرت مجموعة من الأنظمة لحماية حقوق الملكية الفكرية، بدءا من نظام براءات الاختراع السعودي ونظام حماية حقوق المؤلف ونظام المطبوعات النشر ونظام النشر الإلكتروني ونظام الجرائم المعلوماتية. فجاء في المادة الثانية من نظام حماية حقوق المؤلف نص واسع في المصنفات يحمي مؤلفيها: (يتمتع بحماية هذا النظام مؤلفو المصنفات المبتكرة في العلوم والآداب والفنون أيا كان نوع هذه المصنفات أو طريقة التعبير عنها أو أهميتها أو الغرض من تأليفها)». وعلق الدكتور الصقيه بأن «التوسع في هذا النص محمود، ويدل على تطور المنظومة القانونية بشأن الملكية الفكرية في السعودية»، مؤكدا على أهمية التنفيذ وتفعيله وما له من أهمية كبرى في حماية تلك المنجزات وضمان تطورها.

ويضيف الصقيه «لا يخفى أن التهاون في التنفيذ له أثر على البنية الاقتصادية المعرفية، والتي تشكل ثروة وطنية مهمة تعد مقدمة لقيام الاقتصاد المبني على المعرفة، ونؤكد أيضا على دور المؤلفين والمخترعين في حماية حقوقهم وتوثيقها، ويجب عليهم كذلك أن يمارسوا حقهم في المطالبة بمعاقبة من اعتدى على حقهم، ولا يصح لهم أن يتركوا ذلك للجهات التنفيذية، بل يجب عليهم بذل الجهد في المطالبة بحقوقهم؛ كي لا يتمادى من يرى تقصير المؤلفين والمخترعين قد انضم إلى تقصير الجهات التنفيذية والرقابية».

وتعد كوريا النموذج الأقرب إلى نظام التعليم العام في السعودية، الذي يقضي فيه الطالب 12 عاما متعلما في المدرسة، ما بين ست سنوات في المدرسة الابتدائية، وثلاث سنوات في المدرسة المتوسطة، وثلاث أخرى في المدرسة الثانوية، من دون تحمل دفع تكاليف التعليم العام الحكومي. وأشارت ريناد الثميري، إحدى المترجمات السعوديات في السفارة الكورية، إلى أن «التعليم يرتكز على الإبداع، فالتعليم التقليدي غير ملهم لتطلعات الطلاب الكوريين، فأصبحت الأسئلة في الاختبارات مفتوحة وعامة ليعبر الطالب عما يتطلع إليه ويكتشف ميوله ليفيد المجتمع به».

وصرامة التعليم الكوري كانت محط الأنظار والانتقاد في الوقت نفسه، كون الطالب لو رسب في اختبارات القدرات والقبول لا يعطى فرصة ثانية لدخولها، وبالتالي لا يتمكن من الالتحاق بالتعليم العالي في الجامعات، وهذا يرجع لكون عدد السكان كبيرا في كوريا، الأمر الذي قد يعرقل مسيرة التعليم الجامعي لدى الطالب، لكنه يتجه بعدها إلى سوق العمل مباشرة لتأمين حاجاته، كون المعيشة صعبة في كوريا ويجب على الفرد أن يعمل كي يعول نفسه، فيعمد الأهالي إلى تأمين مستقبل أولادهم بتوفير تكاليف الدراسة الجامعية عند نشأتهم.

وعلى غرار ما يقدمه التعليم العام للطلاب والمعلمين، أتيحت الفرصة للمستثمرين في تطوير التعليم العام وتحويل المعرفة لمنتجات، حيث بادرت شركة «سامسونغ» إلى إنشاء نظام برمجي مطور أطلقت عليه مسمى «مدرسة سامسونغ الذكية»، التي انطلقت فكرتها من خلال تصميم شاشة إلكترونية مستوحاة من بساطة تصميم السبورات البيضاء في الفصول الدراسية، ودمجوها بتقنيات الحاسب الآلي لتخلق بيئة دراسية مطورة وسلسة يستطيع المعلم معها ابتكار آلاف الأفكار لجعل الدروس المرئية أكثر إمتاعا وفائدة للطالب.

ولم يغفل القائمون على النظام الإلكتروني المطوّر ربط الطالب بما يقدمه المعلم، فيقدمون للطلاب الأجهزة اللوحية التي تحوي كتبا إلكترونية ومتصفحا للبحث في شبكة الإنترنت، لتساعدهم تارة على التركيز أثناء شرح الدروس، وعلى تنمية مهارات التعلّم الذاتي خارج الفصل الدراسي تارة أخرى.

وكشف مدير شركة «سامسونع» لـ«الشرق الأوسط» عن نظامهم البرمجي المطور الذي تم عرضه لأول مرة في المعرض ومنتدى التعليم الدولي بالرياض في فبراير (شباط) الماضي، حيث تعمل شاشة «سامسونغ» ذات خاصية اللمس المتعدد كسبورة إلكترونية يستخدمها المعلم لعرض الدروس وتصفح المناهج، وتعلم الكتابة بقلم إلكتروني مخصص لشاشة «الغالكسي تاب»، ويطرح الطلاب أسئلتهم بشكل مباشر على المعلم من خلال اتصالهم معه بأجهزتهم اللوحية المحمولة، فضلا عن ابتداعهم لنظام برمجي يجعل شاشات الأجهزة اللوحية تتحول تلقائيا من نظام «الأندرويد» إلى نظام «ويندوز» عند بدء شرح المعلم على الشاشة الإلكترونية المرتبطة بجهاز الحاسب الآلي الخاص بالمعلم.

وقد أنشئت كوريا نظام البث التعليمي الكوري (EBS)، وهي شبكة بث عامة لتطوير التعليم العام العالمي وفقا لما عليها من مسؤولية اجتماعية بتقديم أجود البرامج للعامة المبتكرة والهادفة من خلال سبع قنوات على التلفاز والراديو والأجهزة المحمولة، ليكون باب التعلم مفتوحا لأي شخص في أي مكان وزمن. وتسعى بذلك إلى تعزيز التعليم العام لتوفير ما ينفق على التعليم الخاص المدفوع، علاوة على ذلك تسخر كوريا كل جهودها لإنشاء بنك معلومات إلكتروني خاص بالتعليم، ليدعم التعليم العام. وترسخ كوريا نظام بثها التعليمي، بربطها بنظام التعليم الإلكتروني.

تقدم دولة كوريا في تحقيق قفزاتها الهائلة نحو التعليم التقني المطور المقدم لطلابها، مع محافظتها على الكيان والهوية الوطنية التي يمثلها شعبها حول العالم، يجعلانها الأقرب إلى النموذج السعودي في الحفاظ على الهوية والعادات والتعطش لتقدم وتطوير التعليم العام بمختلف مراحله.