التعليم «عن بعد» في الجامعات العربية.. هل أصبح «عن قرب»؟

التقنية رافد الأكاديمي نحو تحويل المعرفة إلى واقع فعلي

TT

تجابه المؤسسات التعليمية اليوم تحديات عدة بعد التحول التقني الهائل في تقنية المعلومات والاتصالات، التي أثرت بلا شك على تقبل الطلاب للعملية التعليمية بالشكل التقليدي، علاوة على المطالبات المستمرة بتطوير المناهج التي يكتسب منها الطالب خبراته ومهاراته المعرفية.

وتعد فكرة التعليم عن بعد والتعلّم الإلكتروني جزءا من التطوير الحاصل في البنية الأساسية للتعليم في السعودية والوطن العربي، كفكرة غيرت الصورة النمطية للتعليم العالي في الجامعات. ودعم ذلك التوجه صدور اللائحة التنظيمية للتعليم عن بعد بمؤسسات التعليم العالي لضمان إيجاد مرجعية قانونية، وكذلك لضمان جودة التعليم عن بعد بإلزام مؤسسات التعليم عن بعد بمعايير ومواصفات معتمدة ومحددة نظاميا لدى المركز الوطني للتعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد، فضلا عن إلزام تلك المؤسسات بالحصول على الاعتماد الأكاديمي من الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي.

ولكن التساؤل الذي يثار دائما يدور حول إسهام أتمتة التعليم وتحويله لـ«تعلم إلكتروني» في جودة التعليم على كل الأصعدة، وتأثيره على أركان العملية التعليمية من الفصول الدراسية، والمناهج، والطلاب، والمعلمين.

الدكتورة إيناس الشيتي أكاديمية متخصصة في مجال تقنية المعلومات وعضو هيئة تدريس بجامعة القصيم، بادرت بدراسة إثر استخدام تقنية الحوسبة السحابية في التعليم الإلكتروني بجامعة القصيم، عن طريق التجربة في فصل دراسي كامل لمجموعة من طالبات كلية الدراسات الإسلامية بالجامعة. وذكرت الدكتورة إيناس في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط» أن البيئة التعليمية يجب أن تتحرر من مفهوم المكان، ويصبح التعلم عبر الإنترنت متاحا، بحيث لا تترتب التزامات لحضور محاضرات في وقت معين أو مكان محدد، وإنما ينتشر بين الطلبة ثقافة التعلم المرن من أي مكان وأي وقت.

وفي المقابل، أشارت الدكتورة الشيتي إلى أنه من الواجب تأهيل المعلم على استخدام التقنية والإنترنت، وتصميم المنهج الدراسي بالشكل الذي يتلاءم مع بيئة التعلم الإلكتروني بالحوسبة السحابية، لتفعيل دوره كمرشد للطالب وليس كملقن. وحول إدخال فكرة الحوسبة السحابية في التعليم، أوضحت الدكتورة الشيتي أن هناك تخوفا من فكرة نشر المناهج الدراسية على السحابة، يرجع لأسباب عدة، منها التخوف من عدم حفظ الحق الفكري لما ينشر فيها كونها متاحة وعامة للجميع، وكذلك التخوف من أمن المعلومات للسحابات العامة (public cloud).

وتضيف: «على المستوى الإقليمي لا توجد دراسات خاصة عن استخدام الحوسبة السحابية في التعليم الإلكتروني في العالم العربي، على الرغم من أنها توفر الوقت والكثير من الجهد لو استخدمت في الجامعات، لعدم الحاجة للصرف على أجهزة أو برمجيات، ولا يتطلب ذلك إلا تأجير الخدمة من موردها مع اتصال دائم بالإنترنت، لكي يدرس الطالب في أي مكان يوجد فيه وأي وقت، بفضل المحتوى المنشور بواسطة خدمة الحوسبة السحابية».

وترى فضيلة تونيسا المحاضرة بجامعة جازان بكلية علوم الحاسب ونظم المعلومات في حديثها مع «الشرق الأوسط» أن تطبيق التعليم الإلكتروني في السعودية سيؤثر بشكل أكبر على الطالبات الجامعيات، وخصوصا عند التسرب لتعذر إكمال الدراسة الجامعية بسبب المسؤوليات المتعددة في تربية أطفالها والعناية بهم، فلا حاجة للخروج وحضور المحاضرات، وإنما التعلم بواسطة جهاز الكومبيوتر والإنترنت. وتضيف: «من واقع تجربتي بالتدريس الجامعي بالسعودية، أرى أن كثيرا من طالباتي يرغبن بهذا النمط التعليمي لمشكلات متعلقة بعدم مقدرتهن للحضور للجامعة بشكل يومي».

وخلصت دراسة تجريبية حول أثر التدريس باستخدام التعلم الإلكتروني في تنمية التحصيل والتفكير الابتكاري، للدكتورة حنان السلاموني عضو هيئة التدريس بجامعة بورسعيد في مصر، التي طُبّقت على ما يقارب 50 طالبة في المرحلة الثانوية التجارية لقياس قدراتهن المهارية في البيع والترويج، بدلا من طريقة تدريس المادة بشكل تلقيني. اتضح بعد تطبيق نموذج تعليم إلكتروني خاص لمدة فصل دراسي واحد إسهامه بتأثير كبير على تنمية التفكير الابتكاري لدى العينة التي يجري عليها البحث، واستدلت الباحثة السلاموني بالأرقام على ضرورة تطوير أساليب التدريس بما هو متناسب مع متغيرات ومتطلبات سوق العمل، بتهيئة مناخ تعلم مناسب كالتعليم الإلكتروني القائم على حل المشكلات، مما يثير الطالب للتعلم بتركيزه على حل مشكلة وتحفيزه إلكترونيا للتوصل لهدفه بكفاءة وفاعلية، ويشجع الطلاب على الإبداع. وفي إحدى جلسات المؤتمر الدولي الثالث للتعلم الإلكتروني والتعلم عن بعد الذي أقيم بالرياض، الأسبوع الماضي، نوقش محور كيفية تغيير الجامعات التقليدية للتأقلم مع التعلم الإلكتروني، ذكر من خلاله البروفسور بدر الصالح الأكاديمي المتخصص بوسائل وتقنيات التعليم في جامعة الملك سعود، أن التطوير في بنية العملية التعليمية ينتج عنه ما يسمى بالابتكار التعليمي، الذي يحتاج إلى جاهزية من أعضاء هيئة التدريس وعلى مستوى المؤسسة التعليمية، وباعتقاد البروفسور الصالح، فإن الجامعات السعودية جاهزة تقنيا والالتزام المؤسسي ببرامج التدريب والتطوير المهني، لكن توجد جوانب أخرى لا تزال تحتاج مراجعة، كالمتعلقة بالترقيات وقوانين الملكية الفكرية والحوافز، وهي جوانب تهم عضو هيئة التدريس بالدرجة الأولى، وهي تحتاج أن تعطى الأهمية المطلوبة.

واستطرد: «عملية التغيير في تقنيات التعليم تأخذ وقتا ما بين 4 إلى 5 سنوات، كعملية متكاملة تتضح أهدافها وغايتها باكتمالها، لذلك ينبغي تفهم كيفية تغير عضو هيئة التدريس وتكيفه وتقصي رغبته في التطوير، ثم إعطائه المعرفة والمهارات بالتدريب، يليها قياس قدرته على تحويل المعرفة لواقع فعلي باستخدام التقنية، والاستمرار في تعزيز تلك المهارات بتحفيزه».

وأبان البروفسور بدر الصالح أن هناك حاجة ملحّة لعمل خطة مقننة لدمج تقنية في التعليم بالجامعات، أحد جوانبها قياس مستويات التكامل التقني عبر مقاييس خاصة تقيس جوانب التقدم أو التراجع في الكليات كل 6 أشهر. وأضاف: «بعض تقاليد التدريس والقيم متجذرة لدى كبار أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، فمن غير المنطقي التوقع أن يتم التغير بين يوم وليلة، وبالمقابل ينتظر منه أن يكون ملتزما ومتقبلا للتغيير ومتفانيا لتعلم مهارات استخدام التقنية لمصلحة طلابه». ويتصور البروفسور الصالح أن هناك إشكاليات متعلقة بالبحث العلمي والتدريس وتصميم المقررات، فمطالبة عضو هيئة التدريس بها بالإضافة لخدمة المجتمع، لا يمكن أن ينتج مقررات ذات جودة عالية من عضو هيئة تدريس، إلا إذا استخدم أسلوب تكوين فريق دراسي مع مصمم وخبير، لإنتاج مقرر إلكتروني بمحتوى مكتوب مرفق بوسائط متعددة من فيديو وصور تدعمه، مما يسهل عليه عملية تطويره بنفسه فيما بعد سنة دراسية تلو السنة.