طلاب لبنان يجمعون بين الفرانكفونية والأنجلوفونية لمجاراة السوق

المدارس الفرنسية تحكم استراتيجياتها لاستعادة نفوذها اللغوي

مدرسة العائلة المقدسة الفرنسية في لبنان
TT

أطلق الدكتور رضا سعادة، وهو مفتش تربوي سابق في لبنان، أخيرا، صرخة لإنقاذ اللغة الفرنسية في المؤسسات التربوية بلبنان. وكتب الدكتور سعادة مخاطبا من يعنيهم الأمر: «يا سامعي الصوت، أنقذوا لغتكم الفرنسية». وأضاف سعادة: «منذ أكثر من ربع قرن ونحن نصيح ليسمع صوتنا الفرنسيون، ولا أحد يستجيب، وكأن الفرانكفونية تحولت إلى موجة سياسية متقهقرة، لا دخل لها بتلك اللغة الأنيقة وتراثها الأدبي الرفيع». وما يحض هذا المفتش التربوي على طلب النجدة، هو أن نتائج الامتحانات للشهادات الرسمية، تظهر تراجعا لعلامات الطلاب في اللغة الفرنسية تحديدا، نسبة إلى بقية المواد، لا سيما الإنجليزية منها.

أسوأ من ذلك، أن فانسان بيلار، وهو مدير إحدى مدارس الليسيه الفرنسية، التابعة بشكل مباشر للسفارة الفرنسية لدى لبنان، وتدرس المنهج الفرنسي، يؤكد أمام أهالي تلامذته مطلع العام الماضي أن نتائج امتحانات طلاب مدرسته في السنوات الأخيرة، «أظهرت تفوقا في اللغتين الإنجليزية والعربية على حساب الفرنسية. وأن عددا كبيرا من تلامذته، رغم كل الجهود المبذولة، يتخرجون وهم يعانون ضعفا واضحا في لغتهم الفرنسية». علما بأن كل المواد العلمية، وحتى مادة التاريخ، في هذه المدارس لغتها الفرنسية وليست العربية.

ويضيف بيلار: «بتنا مقتنعين بأن لبنان ليس بلدا فرانكفونيا كما كان من قبل. فنحن نبذل جهدا كبيرا كي يتكلم التلاميذ في الملعب اللغة الفرنسية، لكن الأمر يبقى صعبا».

وما يشغل بال الفرنسيين في الوقت الحالي، ليس هذا التراجع في المستوى فقط، بل التسرب إلى استخدام الإنجليزية. فالذين يختارون التعلم المدرسي بالإنجليزية عموما ارتفع عددهم خلال السنوات العشر الأخيرة من 30 إلى 45 في المائة، بينما انخفض عدد الذين يختارون الفرنسية لغة لمتابعة دروسهم (علما بأن المواد العلمية لا تزال بالأجنبية في لبنان) من 70 في المائة إلى 55 في المائة.

وبحسب مسؤولين في المدارس العلمانية الفرنسية بلبنان، فإن الغالبية الساحقة من تلامذة هذه المدارس، يذهبون إما إلى الجامعة الأميركية في بيروت لاستكمال تعليمهم، وإما إلى إحدى الجامعات الخاصة الأخرى ذات اللغة الإنجليزية، ونسبة قليلة من الطلاب تتابع دروسها في فرنسا، وغالبا ما يتخصصون بالطب أو أحد المجالات العلمية، في حين ندرة منهم يتوجهون إلى «الجامعة اليسوعية»، التي من المفترض أنها الأقرب إلى المنهاج الفرنسي. علما بأن الغالبية الساحقة من الجامعات الخاصة التي شهدت نموا كبيرا في أعدادها في السنوات العشر الأخيرة، تدرس مناهجها باللغة الإنجليزية وليس الفرنسية.

ونظرا للإقبال الذي لا مرد له على لغة شكسبير، فإن الفرنسيين أقاموا خططهم الدفاعية التي يبدو أنها نجحت جزئيا، في الحد من الخسائر، دون أن تتمكن من لجم تقدم الإنجليزية.

والاستراتيجيتان الأبرز تتلخصان؛ أولا في إعطاء أهمية كبرى لتعليم اللغة الإنجليزية في مدارس البعثات الفرنسية بلبنان، حتى إن بعض المسؤولين التربويين فيها باتوا يستخدمون شعار «من يريد تعلم الإنجليزية، فعليه أن يأتي إلى المدارس الفرنسية» في معرض الترويج لهذه المدارس. وهو ما نجح بقوة، وشكل سدا أمام تراجع كبير كان يمكن أن يكتب للفرانكفونية في بلاد الأرز.

فاللبنانيون يرغبون في تعليم أولادهم ثلاث لغات على الأقل، وأن يتمكنوا من جمع الإنجليزية إلى الفرنسية إضافة إلى لغتهم الأم، فهذا يشكل غواية كبيرة لهم، خاصة أن لغة رابعة بات بإمكان تلامذة المدارس الفرنسية، تعلمها في السنتين الدراسيتين الأخيرتين، وأهمها الإيطالية أو الإسبانية، مما أهل بعض الطلاب لإكمال تعليمهم في إسبانيا. أما التحاق الأولاد بالمدارس الإنجليزية، فإنه سيجعل من احتمالية تعلمهم لغات أخرى أقل بكثير، لأنهم لن يستشعروا الحاجة لذلك.

وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 600 ألف طالب من أصل 900 ألف، يدرسون باللغة الفرنسية، ونصف أعداد الجامعيين (وهذا بفضل الجامعة اللبنانية الوطنية التي تضم أكبر عدد من الطلاب في لبنان، ولا تزال الفرنسية لغة غالبية فروعها). كما تشير الأرقام إلى وجود 35 مدرسة علمانية فرنسية تخرج 47 ألف طالب سنويا.

أما الاستراتيجية الدفاعية الثانية التي يتبعها الفرنسيون لكبح جماح تغلغل الإنجليزية، فهي استمالة التلاميذ اللبنانيين الذين يدرسون في مدارسهم، طوال السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية، لإكمال تعليمهم في فرنسا. ولا تتوقف هذه المدارس عن شرح نظامها التعليمي والإمكانات التي تكتنزها مؤسساتها، وتقوم بمساعدة التلاميذ لتقديم طلبات إلى أهم المعاهد والجامعات الفرنسية، وتتابعهم للفوز بالقبول، لكن ذلك لا ينتهي لغاية اللحظة إلى نتائج كبيرة. إذ غالبا ما يختار الخريجون في اللحظات الأخيرة جامعات ذات توجه أميركي.

ولمعالجة هذه الثغرة، بدأ الفرنسيون بإعداد مدرسين يلتحقون بالمؤسسات التعليمية خارج فرنسا، مهمتهم توجيه التلاميذ مهنيا لفترة ما بعد البكالوريا.

ورغم التشاؤم الفرنسي والإحساس المتنامي، بالضعف الذي يصيب تعليم الفرنسية في لبنان، البلد الفرانكفوني الأول والأهم، في المنطقة كلها على الإطلاق، إلا أن المسؤولين الفرانكفونيين يشددون في كل مناسبة على أن تزايد عدد المتعلمين للإنجليزية لا يعني أن اللبنانيين هجروا الفرنسية، بل هذا يدلل على اهتمام متزايد من اللبنانيين بإتقان اللغات، والانفتاح على ثقافات أخرى.

وبحسب المديرة الإقليمية للوكالة الجامعية الفرانكفونية في الشرق الأوسط سلوى ناكوزي، فإن «التراجع يطال بعض المجالات مثل الإعلام والإعلان والعلوم والتجارة، في حين أن اللغة الفرنسية لا تزال موجودة بقوة في مجال الحقوق مثلا، وبعض المطبوعات الصحافية التي تصدر بالفرنسية»، علما بأن محطتين تلفزيونيتين ناطقتين بالفرنسية أغلقتا في لبنان، بسبب نقص التمويل، مما أثار حفيظة المدافعين عن الفرانكفونية.

ورغم أن لبنان كان أول دولة توقع «الميثاق اللغوي الفرنسي» عام 2010 مما يلزمه دعم استخدام الفرنسية وتهيئة البيئة الملائمة لنموها، فإن هذا لا يبدو جديا، إلا في مجالات تقدم فيها الدولة الفرنسية تمويلات، لبرامج تربوية أو تدريبية، ومساعدات للمدارس أو منحا للجامعة اللبنانية.