«علم الاجتماع» يفتح باب المدرسة اللبنانية على المجتمع

المنسقة في المدارس الرسمية: للمرة الأولى مادة تربط الطالب بمحيطه

مدرسو علم الاجتماع في البقاع أثناء أحد اللقاءات التربوية
TT

دخل «علم الاجتماع» متأخرا إلى غالبية المناهج الدراسية العربية. فقبل ما يقارب العقد، لم تكن هذه المادة جزءا من النظام التعليمي في المدارس. لكن السؤال هو: ما الذي يمكن لعلم الاجتماع أن يقدمه؟ وما هي انعكاساته على العملية التعليمية، وبناء شخصية الطالب؟

لكل بلد حيثياته وظروفه، بطبيعة الحال، لكن الذي لا جدال فيه أنها قد تكون المادة الأكثر تمفصلا مع الحياة العامة، وتأثيرا على الطالب لناحية سلوكه ومنهجة أسلوبه في التفكير. وتصف ثناء الحلوة، منسقة مادة «علم الاجتماع» في المدارس الرسمية اللبنانية هذه المادة بأنها «الرابط الذي يربط الطالب بمحيطه، فقد فتحت باب المدرسة على المجتمع بعد أن كان مغلقا، ومن خلالها يتعلم التلميذ ألف باء ما يحدث خارجا» واصفة دخول مادة «علم الاجتماع» إلى المناهج التعليمية اللبنانية بـ«النقلة النوعية». وتضيف: «للمرة الأولى صارت هناك مادة تدرس تاريخ المجتمع وظواهره، مع وعي بالخلفيات والتراكمات المتوارثة. وهذا بحد ذاته إنجاز مهم».

جدير بالذكر أن «علم الاجتماع» بدأ تعليمه في الثانويات اللبنانية، مع تطبيق خطة النهوض التربوي عام 1997 - 1998 بحيث أصبح هناك، بعد ذلك، أربعة فروع للبكالوريا، أحدها فرع «الاجتماع والاقتصاد» الذي يؤهل حامل شهادته للتخصص في مختلف المجالات باستثناء الطب والهندسة. وهو فرع ينمو بسرعة، حيث تقدم لنيل شهادته عام 2001 نحو ستة آلاف طالب، ليصل عددهم عام 2013 إلى ما يقارب 17 ألفا.

كما أن «علم الاجتماع» كمادة باتت، تدرس اعتبارا من الصف الأول الثانوي، ولكل الفروع، مع تفاوت في عدد الساعات، والعلامات.

تشرح لنا ثناء الحلوة، التي هي نفسها حاملة شهادة ماجستير في «علم الاجتماع» من «الجامعة اللبنانية» وتحضر لنيل الدكتوراه، أن تدريس المادة «يبدأ في الدقائق العشر الأولى من الدرس، بمناقشة ما جرت مشاهدته من ظواهر في اليوم السابق، على شاشات التلفزة، فكل خبر يصلح للخوض فيه بطريقة علمية وموضوعية، كتوطئة للشرح».

الاختلافات في وجهات النظر، الانقسام الحاد في الآراء، ألا يشكل صعوبة بالنسبة للأستاذ؟ هنا تجيب ثناء الحلوة: «هي إحدى المشكلات التي تواجهنا، لكن يتوجب على الأساتذة كما التلاميذ، أن يخلعوا عنهم انتماءاتهم قبل الدخول إلى الصف، واللجوء إلى المنطق العلمي في الطرح».

وللوصول إلى هذه الرؤية العلمية، فإن التدريس يعتمد على توضيح وتحديد المصطلحات والمفاهيم. أولا، على الطالب أن يعرف ما الفرق بين «القيم» و«الثقافة»؟ وكيف أن القيم هي جزء من ثقافة كل مجموعة اجتماعية؟ ما هي السياسة الاجتماعية؟ وما هي تمظهراتها الرأسمالية والاشتراكية؟ هناك تركيز على مرحلة الرئيس فؤاد شهاب، التي أسست للسياسات الاجتماعية في لبنان، وشكلت تحولا مهما، ودراسة لفترة الحرب الأهلية وما بعدها، واتفاق الطائف، مع تشديد على التفاوت الاجتماعي والإنماء غير المتوازن. يتعلم الطالب ما هو الفرق بين دولة فاقدة للعدالة الاجتماعية وأخرى يحصل فيها المواطن على حقوقه.

التقنيات المتبعة في التدريس تعتمد على «الملاحظة»، و«المقابلة» و«الاستمارة»، مما يعني أن العمل الميداني إلزامي، وعلى الطلاب أن ينزلوا على الأرض ولا يكتفوا بالبحث النظري.

إحدى أدوات العمل أيضا تحليل المستندات التي تعرض على الطالب، قد يكون المستند صورة أو جدولا، نصا أو هرما بيانيا، وقد تستخدم هذه المستندات كلها مجتمعة للإضاءة على ظاهرة معينة. قد تكون الظاهرة أو المشكلة هي «غياب الضمان الاجتماعي»، أو «غياب تطبيق إلزامية التعليم» أو «غلاء السكن» وهي جميعها تدل على غياب توفر شروط الاندماج الاجتماعي.

وتعطي ثناء الحلوة، أمثلة كثيرة تدخل ضمن المواضيع التي تدرس لطلاب المرحلة الثانوية في لبنان، منها «وجود المرأة كعاملة في القطاع المصرفي والإعلامي بنسبة 70 في المائة، لكنها تغيب في القطاعين نفسيهما عن المواقع القيادية العليا. وكذلك غياب المرأة عن الحياة السياسية، حيث لا يتجاوز عدد النساء في هذا المجال خمسة في المائة. هناك أيضا موضوع العمل النقابي وإجراء مقارنات بين ما يحدث في لبنان وما تعيشه فرنسا. هناك قضية الأحزاب التي من المفترض أن تقوم على برامج وأفكار، بينما هي في لبنان غالبا ما تعود وتأخذ منحى عائليا.

وحين نسأل كيف يمكن لهكذا مادة، مجلوبة ومستوردة من المناهج الغربية، أن تعرب، تجيب الحلوة: «نحن لنا خصوصيتنا. كل الأمثلة التي نقدمها والقضايا التي نطرحها هي لبنانية. نحن نستفيد من المنهج الغربي، لكن ما يهمنا في النهاية، أن نعلم التلميذ كيف يرى مجتمعه بطريقة عقلانية. وهو أمر من المفترض أن يرافقه طويلا وهو يواجه الحياة».

لا تخفي ثناء الحلوة، أن هناك صعوبات تواجه مدرسي المادة «نحن نطلب من التلميذ أن يستخدم المنطق العلمي، فيما نحن مجتمع عاطفي انفعالي. يأتي التلاميذ إلى الصف حاملين عاداتهم ومشربين بتربية تقليدية. وهناك بيئات نواجه فيها صعوبات أكثر من غيرها»، وتضيف الحلوة: «إخراج الإنسان من الذاتي ليس مسألة سهلة، حتى الأستاذ لا يمكننا أن ننكر أنه ابن بيئة ومجتمعه، ويميل - كما كل البشر - إلى تسويق فكرته. لا مجال لنكران أن لبنان كله منقسم، والنخبة ليست علمية في تحليلها وطروحاتها بالقدر الكافي، فكيف نطلب من التلميذ ذلك؟ هذه معضلة بالتأكيد، مع أن مادة علم الاجتماع هي رافعة علمية لأنها تساعد، بما تمنحنا من أدوات بحث، على فهم محيطنا بموضوعية أكبر».

وتوضح الحلوة أن «الموروث الثقافي، بجوانبه السلبية يكون حاضرا بشكل قوي في أحيان كثيرة، بحيث إن الإنسان غالبا ما يعود ويتصرف وفقا لما نشأ عليه. صحيح أننا نعلم تلامذتنا أن الرجل السياسي يجب أن يتمتع بالكفاءة ومعايير الجدارة، وأن يتسلح ببرنامج تنموي، لكن غالبا ما يذهب أحدنا رغم علمه بكل هذا لينتخب وفقا لما تمليه العائلة أو البيئة الحاضنة. نعم، هناك عوائق ومعضلات، هناك تقاليد متجذرة، وعادات سلبية مترسخة، لكن مع هذا أنا متفائلة بما يمكن أن يقدمه علم الاجتماع للطلاب».

من أين يأتي التفاؤل إذا كان ما يتعلمه التلميذ يذهب في غالبه هباء الريح؟ لا توافق الحلوة على هذا الطرح، وتقول: «إذا استفاد التلميذ ولو جزءا بسيطا، مما يتعلمه فهذا أمر جيد. نحن نزرع بذرة العقلانية عند طلابنا، وحين يعودون ليتصرفوا بعاطفية وفق الموروث سيعرفون، لحظتها أنهم جانبوا الصواب. ساعة الخطأ، سيعرف تلميذنا، على الأقل، أنه أخطأ وكان بمستطاعه أن يتصرف بطريقة مغايرة».