دحض افتراءات كاتب على مؤسسات التعليم العملاقة في السعودية

عصام بن يحيى الفيلالي*

TT

مؤسسة المعلومات العلمية (ISI) التي ترصد عدد المرات التي يستشهد فيها بورقة علمية في الدوريات، تصدر على الويب قائمة بالمقالات التي يرتفع معدل الاستشهاد بها وقائمة بالباحثين الذين يستشهد الآخرون بأعمالهم تكرارا. ولو أن تلك المؤسسة كانت تهتم بمقالات الإثارة الصحافية لتصدرت القائمة القصة الإخبارية التي نشرتها مجلة «ساينس» (Science) الأميركية في عدد 11 ديسمبر (كانون الأول) 2011م صفحتي 1344 - 1345 في باب «نظرة على الأخبار» (News Focus) للصحافي يودهيجت بهاتشارجي، عن ممارسات الجامعات السعودية، خاصة جامعة الملك عبد العزيز وجامعة الملك سعود، في عملية استئجار أساتذة غير متفرغين.

مجلة «ساينس» تنشرها الجمعية الأميركية للتقدم العلمي (AAAS) وتوزعها على أعضائها. محتويات المجلة تشمل بابا لنشر مقالات قيمة لعرض ما هو جديد في مجال العلوم من مبتكرات حديثة مع الاهتمام بالتقدم العلمي في مجالات الطب والبيولوجي والبيئة. هذا إلى جانب أبواب أخرى للأخبار العلمية وصفحات إخبارية عامة ينشرها صحافيون (أمثال الصحافي يودهيجت بهاتشارجي) تتعرض لمواضيع متنوعة تتصل بالمجال العلمي والمؤسسات التعليمية والبحثية.

أما الصحافي الذي خص جامعات المملكة بمقاله الأخير فقد تخرج في قسم الهندسة الكيميائية بالمؤسسة الهندية للتقنية بمومباي، وحصل على ماجستير في الصحافة، وحاول دراسة الدكتوراه، كما ورد في سيرته الذاتية. وبعدها أصبح من طاقم الصحافيين في مجلة «ساينس». وقد أتاح له مقاله عن جامعات المملكة فرصة ذهبية للشهرة.

وفي واقع الأمر إن قراء مقالة «ساينس» سيشهدون لذلك الصحافي بالبراعة الخارقة في «تحريف الكلم عن مواضعه». وبالطبع ليس واردا الإشارة إلى أنه يكتب عن التعليم العالي في السعودية حرصا على تقدم التعليم فيها. فالموضوع لا يهمه من قريب أو بعيد، خاصة أن التعليم العالي ومستقبله بالمملكة ربما لا يعني كثيرا من القراء خارج العالم العربي والإسلامي إلا إذا جذبهم إلى النقاش سيل من التشهير والتجريح.

ومن أسرار نجاح الصحافي اختيار كلمات لعناوين مثيرة تجتذب انتباه القارئ للمجلة مثل ما اختاره لمقاله من كلمتي «أوراق مالية» المرادفة لكلمة (Cash) ثم كلمة «السعودية». كلمتان تشيران إلى أن جامعات المملكة «الثرية» توزع «أوراق البنكنوت» بلا حساب لاكتساب سمعة عالمية. مع انعكاس ذلك على قراء المجلة بأن ذلك لا يقابله التزام مرهق ولا يتعدى ذكر اسم الجامعة كجهة ينتسب إليها.

إن بهاتشارجي، كاتب القصة الإخبارية، خانه التوفيق مرتين: واحدة في اختياره عنوانا مثيرا أفقد مقاله المصداقية، خاصة في مجلة علمية تتطلب دعم الافتراضيات ببيانات وحقائق وليس بمقولات تفتقد المصداقية. والثانية في أنه تعمد الإيحاء بأن الجامعات السعودية تسعى إلى مركز أكاديمي متميز عن طريق التحايل بتوزيع مبالغ نقدية طائلة من تحت الطاولة، وكأن عرض وظيفة أستاذ غير متفرغ على أساتذة متميزين في مجالاتهم العلمية أمر مشين، على الرغم من أن هذا تقليد عريق في الجامعات الأميركية الكبرى منذ ما قبل موجة التنافس على مراتب عالمية متميزة.

استهل الصحافي مقاله بقصة مثيرة عن عمليات الاحتيال المالية التي تغص بها الإيميلات المبهمة التي تبشر من يتلقاها بثروة هائلة، ولا تطلب منه سوى الرد على الرسالة الإلكترونية مع إرفاق رقم حسابه في البنك والعنوان لترسل إليه الملايين لقاء عمولة. وهذا ما فعله السيد بهاتشارجي في مقاله - إلى جانب اقتباس كلمات خارجة عن السياق من بعض الصحف. والصحافي يعتمد على أن القارئ لن يتحقق من صحة ما قيل في الحوار، وقلما ينكر أحد ما ينسب إليه من كلام إذا لم يكن فيما قيل إيذاء شخصي له، وبخاصة لو اقترنت بالمقال صور جذابة مثل صورة طلاب سعوديين بملابسهم العربية كمشهد غير مألوف في الجامعات الغربية لجذب انتباه القراء، وصورة أخرى لعقد عمل، مؤكدا أن مجلة «ساينس» استطاعت الحصول على تلك الوثيقة.

وقد افتتح الكاتب المقال بعرض ساخر وتهكمي لواقعة مع الدكتور روبرت كرشنر (Robert Kirshner)، بروفسور كرسي كلاوز (Clowes) للعلوم في جامعة هارفارد الأميركية، الذي يزعم أنه تلقى دعوة مفاجئة عبر «الإيميل» من «فلكي» من جامعة الملك عبد العزيز يعرض عليه 72 ألف دولار سنويا للعمل كأستاذ زائر بالجامعة. وبعد أن تحقق البروفسور كرشنر من مصداقية الرسالة، أسرع في استخدامها كورقة مقايضة مع رئيس القسم لرفع راتبه، خاصة أن العرض لا يتضمن ما يعوقه عن عمله بجامعة هارفارد. فالمطلوب فقط هو الإشراف على فريق بحوث وقضاء أسبوع أو أسبوعين بالمدينة الجامعية عندما تتاح له الفرصة. كما يتطلب منصبه، كأستاذ غير متفرغ، التعريف بانتسابه إلى جامعة الملك عبد العزيز كمكان عمل، بالإضافة إلى جانب هارفارد في سجل «مؤسسة المعلومات العلمية» الخاص بالباحثين الذين يستشهد بهم الباحثون الآخرون.

كما عرض كاتب المقال صورة فوتوغرافية لعقد عمل في جامعة الملك عبد العزيز خاص بالعمل جزءا من الوقت، وقام باستخدام «ماركر» لتسليط الضوء على ثلاثة بنود من العقد بهدف إبرازها للرجوع إليها في سياق الحديث. تلك المواد تؤكد ضرورة الإشارة إلى الانتساب إلى الجامعة. وتشير إحدى المواد إلى أن الدافع وراء هذا الطلب هو تحسين منزلة الجامعة عالميا.

مع أن الالتزام بذكر الجامعة إلى جانب جهة العمل الأساسية في كل المطبوعات والاختراعات والأوراق العلمية التي يشارك فيها الموظف أيا ما كان تصنيفه هو قضية مسلم بها في جميع المؤسسات التعليمية.

ونجد هنا أن هناك محاولة مستميتة لإعطاء انطباع أقل ما يقال عنه إنه «مضلل»؛ حيث يعرض «موضوع التنبيه» على الإشارة للجامعة كمكان عمل ثانٍ وكأنها «عملية ابتزاز» بينما الطلب مشروع في كل الأعراف؛ لأنه من المتوقع من الحاصل على منحة من أي جهة كانت أن يشير إلى الجهة المانحة في ما ينشره أثناء ارتباطه بها؛ وهذا واجب أخلاقي ومهني حتى لو لم يجبر عليه. أما شراء حقوق الملكية الفكرية فأمر شائع في الدول المتقدمة.

وجامعات السعودية ليست بدعا بين الجامعات العالمية؛ فنسبة الأساتذة الأجانب في جامعات الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي في تزايد مستمر، وفي كثير من الجامعات قد تفوق نسبتهم عدد الأساتذة من المواطنين. كما أن كثيرا من الجامعات تلجأ إلى توظيف أساتذة زائرين وأساتذة غير متفرغين لتحصل على خبرات متميزة للنهضة ببرامجها التعليمية والبحثية وتتلافى، في الوقت نفسه، خلق مناصب دائمة قد ترهقها ماديا لأمد بعيد.

ومعلوم بداهة عند المتخصصين والقانونيين (وتنص لائحة البحث العلمي الموحدة التي اعتمدها المقام السامي على دعم البحث العلمي من خلال أمور كثيرة منها) أن يكون للجامعة حق النشر في كل ما تنشره من مطبوعات أو أعمال علمية مثل الرسائل أو الكتب أو البحوث العلمية حسب اللائحة ويكون للجامعة الحق في ذلك ما لا يقل عن خمس سنوات.

وبعد هذه السنين الطويلة من الاستزارات (أي طلبات العمل كأستاذ زائر) الكثيرة على مستوى الجامعات، وجدت جامعاتنا معايير للاختيار والانتقاء والتعاقد مع الأفضل، والأقدر على تقديم المادة العلمية خلال وقت الزيارات المحدود. وتحريا وإعمالا لصالح العملية التعليمية والبحثية بجامعات المملكة، فإن عددا من جامعاتنا ترفض التعاون مع بعض المرشحين للعمل لدى أي جامعة سعودية وهو دون المستوى المطلوب، وصارت الجامعات السعودية تبحث عن الأساتذة ذوي القدرات العلمية المتميزة والمشهود لهم بالكفاءة حتى صارت الجامعات تتشدد في الموافقات على التعاقدات مع أعضاء هيئة تدريس من غير المواطنين، وتبذل ما تستطيع من جهد ومكافآت للوصول إلى الأمثل. مع العلم بأن جميع العقود المبرمة هي عقود معلنة، وليست سرية، وهي مسجلة في الأوراق الثبوتية، ولو سئلت عنها الجامعة لأجابت. وجميع العقود التي أبرمت خضعت للوائح التعاقد في الجامعات السعودية. وأخيرا: هل يعي المتحدثون من غير تخصيص لأحد أو استثناء أن رسالة الجامعة تتناول تطوير الأستاذ الجامعي الوطني، وتطوير البحث والدراسات العليا، وأن هذه العقود بالصيغة التي ذكرت لا تخرج عن هذه الأطر؟ فإذا أضيف إليها التفوق والريادة باحتساب الأعمال والرقي بمكانة الجامعة خاصة، والتعليم الجامعي في المملكة بصفة عامة، فهو أمر يراه العقلاء والمنصفون من الجدية والحزم بمكانة سامية بعيدا عن المصالح الفردية والنيل من الجادين الذين يسعون للعمل الجاد، الذي لا مكان فيه لمتساهل أو غير جاد على حساب الآخرين. وأذكِّر الجميع بقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (الحجرات: 6).

* عضو هيئة تدريس جامعة الملك عبد العزيز