أميركا: لماذا نحتاج إلى التعليم المهني؟

45% من الطلبة في التعليم الفنلندي يختارون المسار المهني لا الأكاديمي

TT

استعانت بي وزارة التعليم النرويجية قبل عدة سنوات لتدريب معلمي التدريب المهني. ونظرا لإشرافي بشكل كامل على المدارس الثانوية التي كان طلبة التعليم المهني فيها هم تلك النوعية من الطلبة الذين لم يتمكنوا من تحقيق التقدم الأكاديمي، فإنه كان بمثابة نوع من المفاجأة بالنسبة لي أن أكون في دولة يحظى فيها التعليم المهني بمثل هذه القيمة الكبيرة، والتمويل الجيد، وطلبة كان بمقدورهم الدخول إلى كليات الطب إذا ما أرادوا ذلك.

تذكرت هذه التجربة مؤخرا عندما تحدث توني واغنر، صاحب كتاب «فجوة الإنجاز العالمي» والذي أصدر مؤخرا «تكوين مبتكرين»، مع معلمين وأولياء أمور في مجتمعي، مشيرا إلى أن 45 في المائة من الطلبة في النظام التعليمي الفنلندي الناجح إلى حد بعيد يختارون المسار المهني، لا الأكاديمي، بعد الانتهاء من التعليم الأساسي. وأنا على يقين من أن غالبيتكم لديهم بعض الطلبة على يقين من أن أكثر ما يسعدهم هو العمل بأيديهم، سواء أكان ذلك في هندسة السيارات أو الدوائر الكهربائية في المنازل أو تسريحات الشعر أو جلسات التدليك العلاجي. وأنا على يقين من أن كل هؤلاء الطلبة واثقون من أنه ما من سبيل لإخبار آبائهم بأنهم يفضلون الاستمرار في واحدة من هذه الوظائف عن الذهاب إلى الجامعة للاستعداد لعمل مهني أو عمل مكتبي.

نحن نعيش في مجتمع يهتم إلى حد بعيد بالمهن والوظائف الإدارية، ولا يزال ينظر إلى الأعمال المهنية باعتبارها أعمالا متواضعة القيمة. وليس من قبيل الدهشة أن يرغب الآباء في أن يواصل أبناؤهم المهن التي تحافظ أو تزيد من مكانتهم الاجتماعية. يتضح ذلك إلى حد بعيد في المجتمعات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة. وفي الوقت ذاته يرى غالبية المعلمين تحول الطالب المتفوق في الناحية الأكاديمية ضياعا للموهبة.

المشكلة نفسها توجد دائما بالنسبة للطلبة الذين يتلقون العون للتغلب على فجوة الإنجاز، فأغلب المدارس التي تقدم العون للأطفال على هذه الفجوة وتحقيق إنجاز أكاديمي عادة ما يكون معيار الجودة لديها هو الالتحاق بالجامعة، والتي تمثل علامة النجاح بالنسبة لهذه المدارس. والأطفال الأوائل بالنسبة لعائلاتهم الذين يتخرجون في المدارس الثانوية ينظر إليهم على أنهم حمقى عندما «يتنازلون عن ذلك» عبر تفضيل بديل عن الذهاب إلى الجامعة.

هذا التحيز ضد التعليم المهني هو نوع من الخلل الوظيفي، وله تأثير مدمر على أطفالنا. ينبغي لهؤلاء الأطفال أن يحظوا بالفرصة كي يتدربوا على أي نوع من المهن التي قد تقودهم إليها مهاراتهم ومواهبهم الطبيعية وخياراتهم عوضا عن وظائف عادية سيجدونها بلا معنى. وهو أيضا مدمر لمجتمعنا، فإن الكثير من المهارات التي نحتاج إليها للتنافس في السوق العالمية للقرن الحادي والعشرين هي مهارات تقنية. ومن ثم فإن غياب التميز في الكثير من المجالات المهنية والتقنية يكلفنا هو الآخر من الناحية الاقتصادية كدولة.

وفي بداية الستينات، تحدث جون غاردنر، في كتابه الكلاسيكي «امتياز»، بشأن أهمية التعليم المهني وتطوير التميز عبر كل الوظائف في الصحة الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة لمجتمعنا. ولسوء الحظ فقد حققنا تقدما بسيطا في سنوات التدخل. فالطلبة الذين لا يتميزون في المجالات الأكاديمية التقليدية، أو لا توجد لديهم رغبة كبيرة في دراستها، لا ينبغي أن يواجهوا بخيبة الأمل أو الرفض من قبل آبائهم أو مدرسيهم.

وكما كان هوارد غاردنر، الأستاذ في جامعة هارفارد، يشير دائما فإن هناك أنواعا مختلفة من الذكاء، وإنها ذات قيمة متكافئة. وكأحد الأمثلة على ذلك عادة ما يكون الذكاء المكاني والجسدي مرتفعا في الأشخاص الناجحين في المهن التقنية المتنوعة. ولا يوجد تناقض على الإطلاق بين إدراك وتنمية هذه الأنواع من الذكاء وتنمية المهارات اللفظية والحسابية لدى كل الطلاب.

وعلى الرغم من أن تغير القيم الاجتماعية يتطلب وقتا، فإنه يمكن للتغييرات أن تحدث في المدرسة أو على مستوى الحي بوتيرة أسرع. والجيد هو أن هناك نماذج وموارد عديدة لتوجيه المعلمين. وقد تحدثت جوي كلين، في مقال لها في مجلة «تايم»، عن العدد المتزايد من برامج التدريب المهني الممتازة والتي تحظى بتمويل جيد في الولايات المتحدة وبخاصة في ولاية أريزونا. وكان من بينهما برنامجان أحدهما في معهد إيست فالي للتكنولوجيا في ميسا والثاني برنامج «كارير آند تكنيكال إديوكيشن» في مدرسة مونيومنت فالي الثانوية في كاينتا، وهذان البرنامجان يوفران الإلهام والنموذج العملي الذي يطبق في العديد من المقاطعات. وهناك الكثير من المدارس عبر الولايات المتحدة التي تقيم برامج شراكة تساعد الطلبة على اكتساب الخبرة العملية أثناء الدراسة في المدارس الثانوية الأكاديمية.

وفي مدرسة سيتي الثانوية للفنون والتكنولوجيا في سان فرانسيسكو، يحصل كل الطلبة والمدرسين على فرصة التدرب في المجتمع، حيث يخضعون لإشراف من قبل مستشار مدرستهم. وتأتي مدرسة مت وست الثانوية في أوكلاند بولاية كاليفورنيا واحدا من الأماكن التي تضع تدريب الطالب ركيزة أساسية في مهمتها. ويلقي كتاب «التدريس في مكان العمل» لنانسي هوفمان، الرائع الضوء على كيفية نجاح ست دول في دمج المدارس في أماكن العمل، وفي الوقت ذاته تلقي الضوء على مكان حدوث ذلك في الولايات المتحدة.

وأخيرا، فإن القدرة على البدء في تقنين التدريب المهني في مقاطعة ربما يعتمد أيضا على إعادة تعليم الآباء بشكل ناجح بشأن قيمة الوظائف التي لا تشغل مكانة كبيرة على السلم الاجتماعي. ويقدم مايك روز في كتابه «العقل في العمل: قيمة ذكاء العامل الأميركي» ترياقا لنظرتنا الاجتماعية المتحيزة بشأن الذكاء، ويلقي الضوء على عدد من المهارات اليدوية والمعرفية التي تحتاجها في وظائف قلل المجتمع من شأنها. والتدريب المهني في المدارس الثانوية وما بعد الثانوية يجب أن يحظى بقيمة كبيرة، وتمويل جيد وأن يطبق بفاعلية. ويمكن بل وينبغي أن تنفذ الخطوات الأولى على المستوى المحلي.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»