المبتعثون السعوديون بين تعزيز الهوية الثقافية وإثبات الوجود في المجتمعات الخارجية

كسروا حاجز العزلة وأسسوا مجاميع لإدارة الأزمات

من فوائد الابتعاث أنه يمد جسور التواصل وتبادل الخبرات في الخارج
TT

يعيش المبتعث عادة أجواء عزلة تفرضها ظروف دراسته، ووطأة الغربة التي عادة ما تقود إلى عزلة تدفع المبتعثين نحو توطيد وتأطير هوياتهم الثقافية بحكم معيشتهم بالخارج لاستكمال الدراسة، من خلال تأسيس النوادي السعودية التابعة للملحقيات الثقافية، فضلا عن إثبات حضورهم، أفرادا وجماعات، ضمن مؤسسات المجتمع المدني في بلدان الابتعاث.

واستقصت «الشرق الأوسط» أحوال بعض المبتعثين السعوديين في الخارج، وانخراطهم ضمن الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي يمارسونها في بلد الابتعاث وتأثيرها عليهم كأفراد وتجمعات. سعيد الغامدي أحد أعضاء «النادي السعودي» بمدينة سانت جون بولاية نيوبرنزويك بكندا، ذكر أن المبتعثين السعوديين بالمدينة التي يدرسون بها، يحرصون على اللقاءات المتعددة في مدرسة الجبل التي يحجزونها مرتين شهريا للقاء بها، وأيضا للاحتفال بالمناسبات والأعياد، وأبرز الاحتفالات التي نظمها النادي احتفال عيد الأضحى في العام الماضي، الذي فاق عدد الحضور فيه 200 مبتعث ومرافقيهم، وتشتمل احتفالاتهم بالعيد عادة على مختلف الرقصات الشعبية الشهيرة في المناطق السعودية، وإلقاء القصائد الشعرية النبطية من وحي المناسبة.

ومن خلال ناديهم بجامعة موري، الواقعة غرب ولاية كنتاكي الأميركية رسم مبتعثو السعودية صور التكاتف والتعاون فيما بينهم، بحل المعضلات المادية بين إدارة الجامعة والمبتعثين، علاوة على حصول النادي على الرخصة النظامية التي تتيح لهم إنشاء أول مركز إسلامي في المدينة الجامعية.

وأوضح رئيس النادي السعودي بجامعة موري ستيت، إبراهيم القحطاني، لـ«الشرق الأوسط»، أن من ضمن مهام النادي وأهدافه، تذليل المصاعب التي تواجه المبتعثين من خلال تقديم المساعدة والمشورة المباشرة لأي مشكلات دراسية؛ واستطاع من خلال التواصل مع إدارة الجامعة والملحقية الثقافية السعودية لدى أميركا تجنيب الطلبة دفع مبالغ مالية متوسطها 3 آلاف دولار، أي ما يقارب 11250 ريال سعودي، تمثل قيمة فصول تقوية اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى تخصيص «صندوق الطالب» من قبل المبتعثين السعوديين قيمته 50 دولارا لمن رغب في المساهمة، حيث يهدف الطلبة من خلال هذا الصندوق لمساعدة زملائهم الذين قد ينقصهم ما يسد حاجتهم تحت أي ظروف كانت.

وأنهى نادي الطلاب السعوديين مشكلة 55 طالبا مبتعثا مع إدارة الجامعة التي وضعت أسماء هؤلاء الطلبة بقائمة المهددين بإلغاء فصولهم الدراسية مطلع فصل الخريف الجاري في الولايات المتحدة الأميركية. وكان المبتعثون السعوديون قد وجدوا أرقامهم الجامعية ضمن خطاب وجد في أروقة الجامعة يفيد بضرورة دفع قيمة الفصل الدراسي في مدة أقصاها أسبوع، مما تسبب في ذهول الطلبة الذين لم يعتادوا الأمر، خاصة أن الملحقية الثقافية السعودية لدى أميركا لم يسبق لها أن تخلفت عن دفع المبالغ المترتبة على دراستهم في الجامعة، الأمر الذي جعل مدير النادي وأعضاءه يبادرون إلى التواصل مع إدارة الجامعة والملحقية الثقافية لاستيضاح الأمر، وتبين من خلال التواصل المباشر مع مساعدة الملحق الثقافي للشؤون الاجتماعية والثقافية لدى الولايات المتحدة، والموظف المسؤول في الجامعة، وجود سوء فهم من قبل أحد موظفي الجامعة من خلال قراءة الضمان المالي لكل طالب، حيث جاء في تفاصيله أن الملحقية تتكفل بدفع القيمة المالية لفصول تقوية اللغة الإنجليزية، حيث أنهيت مشكلة الطلاب بمبلغ تجاوز 160 ألف دولار.

ومن جانب آخر حصل نادي الطلاب السعوديين بجامعة موري ستيت على الرخصة النظامية التي تتيح لهم إنشاء أول مركز إسلامي في المدينة الجامعية. المركز الإسلامي في مدينة موري ستيت الأميركية يحتضن فصولا دراسية بقسمين للرجال والنساء يقدمها عدد من الطلبة المبتعثين المتخصصين في تدريس اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها (TESOL) لزملائهم في معهد اللغة بالجامعة، حيث يتمكن المتخصصون من تطبيق المواد والنظريات التي تلقوها أثناء الدراسة في مقابل استفادة طلاب المعهد من خبرات هؤلاء الطلبة، كما يحتضن المركز دروسا لتعليم أبناء الطلبة المبتعثين قراءة القرآن وحفظه وتجويده، بالإضافة إلى فصول أخرى للغة العربية ودروس إسلامية أسبوعية، وتقام في المركز الصلوات الخمس وصلاة الجمعة.

وبحسب رئيس النادي إبراهيم القحطاني فقد سلطت وسائل الإعلام الأميركية الضوء بترحيب كبير على المركز الإسلامي الذي تم إنشاؤه بموافقة عمدة المدينة والجهات المختصة بعد الإشادة بقيم وأخلاق الطلاب المسلمين الموجودين في المدينة، والذين يقدر عددهم بـ400 طالب مبتعث. يقول القحطاني: «حصلنا على إشادة الملحقية الثقافية السعودية بالولايات المتحدة الأميركية والسفارة السعودية أيضا، كما حصلنا على المرتبة الـ18 في قائمة الأندية الطلابية الأكثر نشاطا في التقييم السنوي، فأصبحنا ننظم العلاقات الاجتماعية والنشاطات الثقافية بيسر وسهولة».

ويضيف: «نادي الطلاب السعوديين استطاع الحصول على الرخصة النظامية لإقامة هذا المركز بمساعدة سكان المدينة وأعضاء الكنيسة الذين مدوا يد العون والمساعدة لنا، وقاموا بمساندتنا حتى يكون الأمر نظاميا، فقد اجتمعنا بعدد من أعضاء الكنيسة وأوضحنا لهم ما نريد الوصول إليه من إقامة المركز الإسلامي أو الاجتماعي للطلاب المسلمين، حيث كشفنا لهم عن أننا نريد إقامة الصلوات الخمس والنشاطات الاجتماعية والثقافية لا أكثر، وقد وجدنا من قبلهم الترحيب والمساعدة».

يسعى سالم بامخرمة طالب الدكتوراه في الهندسة المعمارية في جامعة كاليفورنيا - لوس أنجليس (UCLA) إلى إثبات نظريته التي ارتكز عليها بأن الجامعة ليست فقط للدراسة، إنما لصناعة القادة؛ فبعد عدة أنشطة له في جامعة «نوتنغهام» البريطانية، التي أمضى فيها سالم سنوات بكالوريوس الهندسة، رشح سالم لتمثيل الجامعة في البرلمان الطلابي على مستوى المملكة المتحدة، أو ما يطلق عليه «الاتحاد الوطني للطلبة» NUS مع 12 طالبا من نخبة 60 ألف طالب في الجامعة. يطرح الطلبة الممثلون لجامعاتهم آراءهم حول ما يمكن الإدلاء به لتطوير الجامعات البريطانية والارتقاء بها، حيث يشكل البرلمان ضغطا على الجامعات لتلبية احتياجات طلابهم، ويمثل الطلاب بدورهم عنصرا فاعلا في البرلمان لدعم أفكارهم في تطوير التعليم في بريطانيا. يقول سالم: «أحد الأمور التي ساهمنا في أن يدعمها الاتحاد الطلابي رسميا توفير مصلى للطلاب المسلمين بكل جامعة بريطانية، ولفت الأنظار لحق الطالب في توفر طعام مناسب للمسلمين في الجامعات، وأمور أخرى تحدد موقف الطلاب، كبرلمان طلابي أمام وزارة التعليم ومختلف الجهات المعنية في بريطانيا».

وبعد انتقاله لكندا لإتمام دراسة شهادة الماجستير العالي في العمارة (MArch II)، التحق سالم بامخرمة في السنة الثانية من دراسته بـكلية ماسي Massey College، التي تعتبر من أعرق الصروح التعليمية في كندا، وينتقى منسوبوها بحرص عال، فينضم إليها كل عام 60 طالبا أو أقل من نخبة طلاب الدراسات العليا في الاختصاصات المختلفة بجامعة تورونتو بكندا؛ ليسكنوا مع بعضهم لمدة عام أو عامين، لغرض رئيسي واحد وهو «تلاقح الأفكار» من مختلف التخصصات، فرسالة ماسي أن تنشئ مختصين ذوي اطلاع واسع في شتى مجالات الحياة، فيستنير فكر عالم الفيزياء في نقاشات الفلسفة والأدب مع طالب العلوم الإنسانية وذاك يتعلم منه أسس البحث العلمي الممنهج.

ويشرح سالم في حديثه مع «الشرق الأوسط» عن الكلية: «هي عبارة عن كلية سكنية بنيت وصممت على نمط جامعة أوكسفورد، الحياة فيها أشبه ما تكون بسلسلة أفلام (هاري بوتر)، حيث الأروقة القديمة والشموع المضيئة وطاولات العشاء الأثرية. يتم تبادل الأفكار والخبرات خلال الوجبات اليومية في حوارات مع الطلاب والبروفسورات من مختلف التخصصات وعمداء الكليات عن الاهتمامات المشتركة، وآخر ما وصل إليه العلم والتجربة الإنسانية. وتقام كل أسبوعين بالكلية مأدبة عشاء رسمية تسمى (High Table) أو (الطاولة المرتفعة)، يدعى إليها 20 من نخبة المجتمع الكندي للقاء الطلاب والاحتكاك بهم، فقد التقينا رئيس الوزراء الكندي السابق وحاكمة كندا، ومجموعة من الوزراء ورواد الفضاء ومؤلفي كتب، وممن حازوا على جائزة نوبل أكثر من مرة خلال هذه اللقاءات».

وفضلا عن ذلك، تتم عملية تشكيل شبكة من العلاقات من خلال تعريف الطلاب على 3 أشخاص يمثلون تخصص الطالب الملتحق بكلية ماسي خارج النطاق الأكاديمي، وبطبيعة تخصص سالم في الهندسة المعمارية فقد التقى وجهاء كندا في مجال العمارة، ليقدموا الذين تعرفوا على أعماله بقرب وقدموا له النصح في الانطلاقة في تخصصه بما يناسب مهاراته في الهندسة، وإبداعه في التصوير، وذوقه الفني، وطموحه العلمي، من واقع خبرتهم بصورة شخصية وخاصة، لضمان أفضل تطبيق للتخصص بعد التخرج والدخول لسوق العمل.

في نهاية العام تم تكريم سالم بامخرمة كأفضل من ساهم في أنشطة الكلية كمنسق للنشاطات غير الصفية، بالإضافة إلى تحرير الكتاب السنوي وتطوعه لتقديم دروس خصوصية لطلاب الثانوية الذين لديهم صعوبات تعلم، وقد تقلد وسام «الأفضل عطاء»، فأهدي له كتاب عمره 50 سنة امتلكه أول حاكم لكندا بعد انفصالها عن بريطانيا، وهو مؤسس الكلية «فينسنت ماسي» الذي سميت الكلية باسمه.

يقول سالم: «أحد أحلامي بعد عودتي للسعودية هو إنشاء مصيف للفنانين في مناطق نائية، بها مجموعة من الاستوديوهات للإقامة بعيدا عن صخب المدينة، وهو أحد المفاهيم المنتشرة في أوروبا وأميركا الشمالية، يختلي فيها العلماء والفنانون والباحثون لإيجاد الهدوء وصفاء الذهن لبدء مشاريع فنية وأبحاث وتأليف الكتب وغيرها». ويضيف: «ما أصبو إليه هو الارتقاء بالذوق العام في المجتمع السعودي، ليس فقط بالأخلاق، وإنما بتعزيز الهوية وتذوق الجمال».