التعليم الفنلندي.. من الفقر إلى شراكات دولية تصدر المعرفة

آكي تورنبيرغ لـ «الشرق الأوسط»: 3000 مدرسة فنلندية تخضع لاشتراطات تعليمية قاسية

TT

خرجت جمهورية فنلندا للعالم بعد ويلات الحرب العالمية الثانية كواحد من أفقر البلدان الأوروبية، فاعتمدت على التعليم وصناعة العقول منذ ستينات القرن الماضي، لبناء نهضة الدولة الاسكندينافية الباردة الواقعة بالجزء الشمالي من القارة الأوروبية، والتي تصدرت المشهد من خلال نظامها التعليمي المتفرد.

وصرح آكي تورنبيرغ، مستشار التعليم بوزارة التعليم والثقافة الفنلندية، لـ«الشرق الأوسط» بقوله «نحن نعمل بكل جهدنا لتصدير خبرات التعليم لخارج البلاد، بتفان وبشكل منفتح مع العالم أجمع، بنفس الجودة والمحتوى والامتيازات، وحتى في التصاميم الهندسية لبيئة التعليم وأثاثها، كجزء من مسؤوليتنا في اتفاقياتنا مع الدول والجهات الراغبة في التعاون معنا».

وأوضح مستشار التعليم أنه حاليا توجد 3 آلاف مدرسة ابتدائية، تحاول الوزارة أن تبقيها تحت شروط محددة قانونا، منها أن تكون قريبة من أماكن سكن طلابها، وأن تُؤمن لجميع الطلاب وجباتهم الغذائية اليومية، والنقل المدرسي، والرعاية الصحية داخل المدرسة بشكل مجاني كجزء من حقوقهم.

ويراعي النظام التعليمي الفنلندي من خلال محتوى المواد الدراسية في المرحلة الأولى من التعليم العام الخصائص النفسية لطلاب كل مرحلة دراسية من ناحية تصميمها بشكل مناسب لعمر محدد، والابتعاد قدر الإمكان عن التركيز في الحفظ، والاعتماد على تطوير معارف الطلاب ومهاراتهم وتقوية نقاط الضعف لديهم، وتسخير كل الجهود لحل أي مشكلة تعليمية، دون اتباع نظام العقوبات وإنما بدفع المزيد من الجهد بعمل المزيد من التدريبات والتمرينات لحلها من قبل المعلمين.

بعد التعليم العام، يكون الخيار منقسما بين اختبارات قبول للمدارس الثانوية (المرحلة الثانية من التعليم العام) أو المؤسسات المهنية للطلاب، وحق المساواة في التعليم مكفول كأحد المبادئ الأساسية في التعليم الفنلندي بحق الطلاب في الحصول على تعليم وتدريب متكافئ عالي الجودة ومجاني لكل المراحل. وقال تورنبيرغ «نحن مسؤولون بالدرجة الأولى عن تعليم الجميع لأننا نحتاج لكل فرد فنلندي، فعدد السكان قليل بالمقارنة بالأعمال الشاغرة».

وما يشغل فنلندا حاليا هو التفكير بطريقة ما لزيادة إمكانيات كل طالب، بتوجيه تعليمي يهدف لتوفير الدعم والمساندة والتوجيه للطلاب ليقدموا أفضل أداء ممكن في دراستهم كمهمة لجميع الكوادر التعليمية، حيث يطالب المعلمون بالتعامل مع الأطفال والشبان كأفراد مستقلين، عليهم مساعدتهم على تحقيق التقدم بتطوير قدراتهم الخاصة.

وأشار الدكتور أنيس بوهلال، الأكاديمي بكلية الهندسة بجامعة تامبيري بالعاصمة الفنلندية هلسنكي، إلى أن التوجه التعليمي في فنلندا تحيطه امتيازات مهمة يشهد بها عالميا على جميع المستويات، فالأداء التعليمي وتصميم البرامج التعليمية خطى خطوات كبيرة في فنلندا من خلال إشراك الطلبة في العملية التعليمية بشكل رئيسي وجعلهم مع معلميهم في حوار مستمر لا صراع فيه. وقال الدكتور بوهلال «أعتقد أن ما أسهم في رفع مستوى التعليم الفنلندي هو شعور الطالب بأنه جزء لا يتجزأ من العملية التعليمية، وعلاقة المعلم بالطالب من مرحلة المدرسة وحتى التعليم العالي، والتخطيط الاستراتيجي واضح المعالم من صانعي القرار، وتأديته بأمانة وإخلاص من القائمين على التعليم في الجمهورية الفنلندية». وأضاف «من وجهة نظري الشخصية أعتقد أن الدول العربية ستستفيد من التجربة الفنلندية في التعليم، بتوجهها نحو الامتياز والبحث عنه في شتى المجالات التعليمية، إلى جانب بناء علاقة متينة وشراكات بين المؤسسات التعليمية والقطاع الصناعي بشكل عملي وعدم الاكتفاء بالجوانب النظرية».

نيكو ليندهولم، مدير مشاريع بشركة «فينبرو» المهتمة بتصدير التعليم الفنلندي، ذكر في حديثه مع «الشرق الأوسط» أنه لا وجه لمقارنة فنلندا في تصدير المعرفة بدول أخرى كالولايات المتحدة الأميركية، أو كندا أو أستراليا، كون طريقة العمل على ذلك تختلف كثيرا عن جلب المشاريع والتجارب الخارجية وأخذها كما هي ومحاولة دمجها مع بيئة التعليم خارج تلك الدول.. وإنما في فنلندا يتم العمل لابتكار نموذج تعليمي أمثل تقوم أسسه من أساليب التعليم الفنلندية المتقنة والمقننة، وتدمج مع النظام التعليمي خارجها بطريقة تطبيق مبتكرة ومختلفة بحسب كل نظام دولة.

وحول تصدير المعرفة من فنلندا، تسعى سارة الخريجي، وهي باحثه سعودية في مجال التعليم من المتوقع أن يرى مشروعها النور خلال سنتين قادمتين، لنقل التجربة التعليمية الفنلندية إلى السعودية عن طريق مدرسة ابتدائية سيتم إنشاؤها في مدينة جدة (غرب السعودية). وذكرت الخريجي لـ«الشرق الأوسط» عبر حوار هاتفي أن الهدف من المدرسة هو تعبئة الثغرات الموجودة بالتعليم بالسعودية وتحديدا في مدينة جدة، من الناحية الأخلاقية للطالب، ومستوى أداء التلميذ، والمنطلق الفكري للمجتمع في تقبل التغيير، وتنمية خصلة التكافل الاجتماعي وتعويد الطلاب عليها.

وتقول الخريجي «فكرت في فنلندا بعد التواصل مع وزارات التعليم في اليابان، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، والسويد للتعرف على النظام التعليمي فيها، والهدف من ذلك هو التوصل لنظام تعليمي ناجح ومتميز وفريد من نوعه، والأهم قابل للتطبيق في السعودية».

وما شد الباحثة السعودية هو تركيز النظام الفنلندي على أداء التلميذ منذ دخوله للمدرسة وحتى يتخرج فيها دون النظر إلى المعدل التراكمي، وليس الناحية الأكاديمية فقط كما هو الحال في المدارس السعودية، إضافة إلى جانب الانضباط الكبير في جو مفعم بالديمقراطية. ويعتبر الأم والأب وليا أمر الطالب جزءا من الخطة المدرسية لكل طالب، بتوقيعهما التزاما مع المدرسة على الموافقة على خطة أبنائهما الشاملة بكل جوانبها، لمتابعة تقدم الطفل أكاديميا ورياضيا ونفسيا واجتماعيا.

ويلتزم المعلم عند دراسته لتخصص تربوي ورغبته في العمل كمعلم في المدرسة بتعلم كل المواد المدرسية، وبعدها يعطى إجازة لممارسة المهنة من قبل وزارة التعليم والثقافة الفنلندية. ويعد من اللافت رؤية المدارس عن كثب وهي تقدم الأفضل وبإخلاص، كون الحكومة الفنلندية تتابع التقييم اليومي لأستاذة المدارس والجامعات، من خلال تقارير يومية عن أداء المعلمين، وحول ما يصرف عليهم وعلى الطلاب من الخزينة العامة.

علاقة مدير المدرسة لا تختلف كثيرا عن علاقة الطلاب بالمعلم، فهي قائمة على الثقة، كأساس في كل مدرسة فنلندية بين المعلم والطالب ومدير المدرسة والمعلمين، يجعله أحيانا يتولى زمام المبادرة في بدء تدريس إحدى المواد في حال لم يوجد بديل لمعلم متغيب أو منسحب.

وتعتبر المرجعية الأكاديمية هي لوزارة التعليم والثقافة، والتي تشرف بشكل شامل على التعليم العالي والتعليم العام والتدريب المهني، وتتبع لها إدارة مستقلة للبحوث متعاونة مع الأساتذة في المدارس لحل المشكلات الخاصة بهم أو المتعلقة بأداء أي من طلابهم، وتعد البلديات مسؤولة بشكل كلي عن كل مدرسة في كل حي من الناحية المادية.

ومن ناحية قانونية، تم توحيد مبادئ التقويم الفنلندي في التعليم بالقانون الصادر قبل نحو أربعة عشر عاما، والذي بموجبه أصبح تقويم التعليم أمرا إلزاميا واجب النفاذ على المستويين الوطني والدولي، حيث يهدف نظام التقويم إلى التأكد من تحقيق الأهداف التي حددها التشريع وكذلك دعم تطوير التعليم وتحسين فرص التعلم. وبناء عليه تم إلغاء التفتيش على المدارس والرقابة على الكتب المدرسية في حقبة التسعينات؛ وبدلا من الرقابة يتم تشجيع التقويم المحلي والتقويم الذاتي للمدارس والحكم الذاتي للمدرسين والمهارات المهنية، وذلك بحسب ما ذكر يوني فاليرافي، مدير المعهد الفنلندي للبحوث التربوية، بجامعة جفيسكفل، في جلسات المنتدى الدولي للتعليم بالرياض.