السياسات التعليمية في جمهورية كوريا.. والعلاقات الثقافية السعودية الكورية

السفير أحمد يونس البراك

TT

لندرة الموارد الطبيعية في جمهورية كوريا - التي تعينها على دفع عملية التنمية - ولسد هذا العجز، أدركت الجمهورية الكورية أن التعليم هو العامل الرئيس الأساسي والحاسم لتحقيق النجاح الاقتصادي القائم على المعرفة، وأن التعليم هو السبيل الوحيد للمنافسة الدولية. وركزت على استثمار وتطوير العقول البشرية، ووضعت كل ثقلها وراء بناء نظام تعليم متطور، بدءا من التعليم في الروضة والتمهيدي وحتى المرحلة الثانوية. واتبعت سياسة تعتمد على توافر تكنولوجيا المعلومات والاتصال واستخدام الابتكار والإبداع والذكاء والمعلومات والمعرفة الفنية، التي جعلت من جمهورية كوريا أحد أكبر منتجي الصلب والسيارات والإلكترونيات في العالم. وركزت السياسات التعليمية في جمهورية كوريا على تعليم المهارات الفردية والتعليم الفني والرياضيات والعلوم والصناعات الإلكترونية التي لا تتطلب مواد خام مكلفة، وتقديم خريجين حسب حاجة المصانع والأسواق.

وتعتبر سياسة غرس الهوية الوطنية وبناء الانتماء الوطني واحترام الموروث من عادات وتقاليد من أهم ركائز التعليم؛ خاصة في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. وقد أدت هذه السياسة لإيجاد توازن بين الحداثة والتقليد، وهذا ما يميز الطالب الكوري ويوضح سر حبه وولائه لوطنه، وما يجده التعليم من اهتمام كبير من قبل الأسرة الكورية واعتباره من أهم الأولويات لديها. وينص الدستور الكوري على أحقية الجميع في التعليم بما يتوافق مع قدراتهم، ومسؤولية الأسرة عن تعليم أبنائها للمرحلة الابتدائية والمتوسطة والتي تعتبر إلزامية ومجانية للجميع، وقد كفل الدستور الكوري استقلالية التعليم ومهنيته وعدم تحيزه السياسي واستقلالية مؤسسات التعليم العالي. وانطلاقا من ذلك بذلت جمهورية كوريا جهودا كبيرة لتطوير وتعزيز الاستثمارات في قطاع التعليم وإصلاحه خاصة النظام الجامعي والأبحاث والتطوير وتحسين البيئة المدرسية بما فيها المرافق المدرسية وتأهيل المدرسين بكفاءات عالية الجودة مع توفير استقلالية كاملة للجامعات ودعمها ماديا.

وأدى التنافس الحاد في التحصيل العلمي في جمهورية كوريا إلى نبوغ الاجتهاد الكبير للطلاب، وشهد التعليم تطورا ملحوظا خلال العقود الماضية، حيث أمست القوى العاملة لديها قادرة على امتلاك شهادات الثانوية العامة أكثر من غيرها في أي مكان من الدول المتطورة. وتجدر الإشارة إلى أن جمهورية كوريا أنفقت الكثير من الأموال على التعليم الذي يخصص له نحو (21 في المائة) من موازنة الدولة بهدف دعم اقتصادها الوطني في المستقبل. وعلى الرغم من أن المرحلة الثانوية غير ملزمة وغير مجانية، فإن نسبة من أنهوا المرحلة المتوسطة والتحقوا بالمرحلة الثانوية تصل إلى نحو 94 في المائة، وتستوعب المدارس الابتدائية كل الأطفال في عمر دخول المدرسة (نحو 4 ملايين طفل) وبما نسبته 100 في المائة، والعدد نفسه في المرحلة المتوسطة. والجدير بالذكر أن نسبة الأمية في جمهورية كوريا هي «صفر» في المائة، ويوجد فيها نحو 300 جامعة.

وحول العلاقات التعليمية والثقافية السعودية الكورية، فإن هناك سمات وملامح مشتركة كثيرة فكرا وسلوكا بين الشعب الكوري والشعب السعودي، أسهمت في وجود أرضية خصبة لتعزيز العلاقات التعليمية والثقافية التي تميزت بالتوافق والفهم المشترك. ولتعزيز هذا التعاون تم توقيع اتفاقية تفاهم بين وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية ووزارة التعليم وتطوير الموارد البشرية في جمهورية كوريا في عام 2007، والتي هدفت إلى تشجيع وتعزيز تبادل الزيارات بين المسؤولين في مجال التعليم العالي وأعضاء هيئة التدريس والباحثين والطلاب، والمعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث في البلدين، وتشجيع قيام برامج بحثية مشتركة من الجانبين لكل القضايا التي تهدف إلى تطوير التعليم العالي في كلا البلدين، وإتاحة فرص تدريب الكوادر في مؤسسات التعليم العالي والجامعات، وتبادل المنح والمقاعد الدراسية، وتسهيل قبول الطلاب وتبادل الكتب والدوريات العلمية والمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية وورش العمل المقامة في البلدين. وقد تم بالفعل تنفيذ بنود الاتفاقية حيث ضم برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي جمهورية كوريا ضمن قائمة الدول في البرنامج للاستفادة من التجارب العلمية الناجحة فيها، وقامت المملكة العربية السعودية بافتتاح ملحقية ثقافية لها في العاصمة سيول عام 2008 لتشكل خطوة مهمة ومتميزة في مسيرة العلاقات السعودية الكورية وتسهم بالتأكيد في تعزيز الشراكة الاستراتيجية متعددة المستويات بين البلدين، خاصة في المجالات العلمية والتقنية والثقافية، والاستفادة من التجارب العلمية الناجحة في جمهورية كوريا التي استطاعت بالفعل أن تحتل الريادة العالمية علميا وتقنيا وصناعيا. وشهدت الفترة الماضية زيارات طلابية مشتركة من مختلف الجامعات، واجتماعات دورية سنوية لرؤساء الجامعات لدى الجانبين. وأسهمت زيارة الدكتور خالد العنقري، وزير التعليم العالي، لجمهورية كوريا عام 2010 في توسيع رقعة الابتعاث وتضاعف عدد الطلبة السعوديين المبتعثين إلى جمهورية كوريا، ولأكثر من ست مرات خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تجاوز العدد 400 طالب، ومن المتوقع زيادة العدد ليصل إلى نحو 1000 طالب وطالبة خلال السنوات الثلاث المقبلة.

وكانت دعوة المملكة العربية السعودية لجمهورية كوريا لتكون ضيف شرف مهرجان الجنادرية (2012) فرصة ثمينة لشعب المملكة والمقيمين بها والزائرين للاطلاع على الثقافة الكورية وفهم نمط حياة الشعب الكوري، وقد تركت المشاركة الكورية الناجحة في المهرجان ذكرى طيبة في نفوس الزوار بمختلف جنسياتهم. واختارت جمهورية كوريا في العام نفسه المملكة العربية السعودية لتكون ضيف شرف معرض سيول الدولي للكتاب، والذي أقيمت على هامشه العديد من الفعاليات الثقافية والشبابية والندوات العلمية والاقتصادية، ومهد الطريق أمام الشعب الكوري ليتعرف على إرث وثقافة الشعب السعودي ويطلع على الأدب السعودي. وقد تركت أيضا مشاركة المملكة، والتي كانت ناجحة بكل المقاييس، انطباعا وذكرى طيبة في نفوس الزوار، وكانت محل إعجاب وتقدير كل المسؤولين الكوريين والزوار بمختلف جنسياتهم.

وقد استضافت جمهورية كوريا فعاليات منتدى الحوار للشباب السعودي الكوري، والذي هيأ الفرصة لإقامة علاقات ثقافية وتعليمية أكثر قربا لأجيال المستقبل، هذا بالإضافة إلى استضافة البلدين للعديد من الأنشطة الثقافية. وتأتي هذه الفعاليات في إطار حرص البلدين على تحقيق المزيد من المصالح المشتركة استنادا إلى نهج التواصل والحوار باعتباره الحجر الأساس لتنمية العلاقات وتطويرها، وكذلك تسهم هذه الفعاليات في تفعيل الحوار بين الحضارات والثقافات وتطوير التفاهم المتبادل والمساهمة في ثقافة السلام وتحقيق الرفاهية والنماء والازدهار، وبما يعود بالنفع على الجانبين.

* السفير السعودي لدى كوريا