دراسة: المدارس العربية لا تفعل «القياس» و«التقويم» على نسق الأوروبية

أفادت أن «الإتقان» تقيد بالغموض والممارسات العشوائية وضبابية الرؤية

TT

كشفت دراسة تربوية متخصصة أن المدارس العربية لم تبلور مفهوم التقويم المستمر في مدارسها، مؤكدة أن التقويم ما زال مقيدا بالغموض والفهم الخاطئ والممارسة العشوائية وضبابية الرؤية على مستوى الميدان التربوي تحديدا.

وقال هاني الحفظي، المشرف التربوي في وزارة التربية والتعليم السعودية، من خلال أطروحته «التقويم المستمر وجدلية الإتقان من واقع الميدان التربوي»: «إن من الأخطاء في الفهم والممارسة أن يخصص للتقويم المستمر زمن معين، كأن تعلن عنه المدرسة أو يعلن المعلم، عن طريق نشرة الواجبات»، مؤكدا أن ذلك نسف لمفهوم التقويم المستمر، كما أنه يجعل من التقويم المستمر توأما للاختبار، ويفقده الروح التي يتميز بها عن الاختبار، مما يجعل الطالب وولي أمره، يعايشون ضغوطا نفسية بسبب هذا التقويم الذي أصبح استنساخا من التقييم أو الاختبار.

وأفاد الباحث التربوي في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «التقويم ما زال مزملا بدثار الغموض والفهم الخاطئ والممارسة العشوائية وضبابية الرؤية على مستوى الميدان التربوي تحديدا؛ وذلك بسب كثرة تعريفات كتب التربية لهذا المفهوم، واختلاف عباراتها ودلالاتها في تعريفه، مما يضع القارئ في حيرة وتذبذب.. وهذا ليس تشاؤما أو اتهاما أو تشويشا؛ بل حقيقة واضحة وضوح الشمس لمن تتبع ومن سيتتبع ذلك».

ومن خلال الزيارات الميدانية للمدارس، لاحظ الباحث أن الطالب «يقيَّم» و«لا يقوَّم»، بينما لو طبقت آلية التقويم بشكل صحيح وقُوِّمَ الطالب بدلا من تقييمه فستكون آلية التقويم كفيلة بنجاح الطالب وبقوة النظام.. شريطة أن تطبق آلية التقويم المستمر بشكل صحيح؛ وذلك لأن التقويم مرحلة متقدمة على التقييم.

وأشار الحفظي إلى أن «أبناءنا رأس استثماراتنا، ويجب أن تكون تلك الاستثمارات ذات عوائد ضخمة في القيم والمبادئ، وما نقدمه لهم الآن ويتمازجون معه، هو ما سيقدمونه لنا في الغد عندما نتوكأ عليهم. وعندئذ ليس لنا أن نطالبهم بما لم يستشعروه ويلمسوه منا، ففاقد الشيء لا يعطيه؛ لذا كان لزاما علينا أن نغرس في أبنائنا ثقافة الإصلاح والتصحيح بروح المربي الحنون الذي يمتص السلوكيات الخاطئة لإعادة تدويرها وتصحيحها لتقديمها لهم بشكل مختلف».

واستطرد الباحث بالقول: «كانت الاختبارات في المرحلة الابتدائية تمثل هاجسا مخيفا للطفل وللأسرة، مما يجعل الطفل في مبتدأ حياته عرضة للأزمات النفسية، والصراعات التي قد يتولد عنها الفشل نتيجة تلك الاختبارات. وما زلت أتذكر تلك المخاوف عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية، حيث كان الاختبار شبحا مخيفا نعانقه كل صباح مكرهين. ومن منا لا يتذكر ذلك، أو لم يشعر ذلك الصباح بتقلص في أمعائه، وسرعة في ضربات قلبه.. ويحدث بكاء، أو صراخ، أو تقيؤ».

وأفاد الحفظي أن «من أهم إنجازات وزارة التربية والتعليم - على سبيل المثال لا الحصر - إقرار آلية التقويم المستمر وتطبيقها؛ بدءا بالصفوف الأولية وتدرجا إلى مرحلة التعليم الأساسي - الابتدائي كافة». وفي رأيه الشخصي أن «هذه الخطوة هي قراءة متميزة من مسؤولي الوزارة نحو غرس ثقافة التصويب والإصلاح في المجتمع، وبعدا عما يصاحب الاختبارات من مخاوف وضغوط. ولأنه نتيجة طبيعية للتقدم الحاصل في علم النفس المعرفي، والقياس والتقويم النفسي التربوي، الذي يأتي استجابة لمتغيرات العصر والتقدم العلمي ومتطلبات سوق العمل، وما يستطيع الطالب فعله وأداءه من مهارات، لا ما يعرفه فقط».

وأبان المشرف التربوي: «يعتقد كثيرون أن التقويم المستمر قد ألغى الاختبارات، وأنه لا يمكن من خلاله معرفة مستوى التلاميذ أو معرفة طريقة أدائهم. وقاسوا ذلك على عدم وجود دليل مادي يمكن عن طريقه التعرف على مستوى التلاميذ، وهذا الدليل المادي هو ورقة الاختبار. والحقيقة أن التقويم المستمر لم يلغِ الاختبارات ألبتة، بل هي أول أداة من أدواته التي يتم تطبيقها على التلاميذ لمعرفة مستواهم ولاتخاذ الإجراء المناسب للإصلاح والتعديل والعلاج، إلا أن هناك فرقا بين الاختبارات التقليدية، حيث إن لكل منها مفهومه وطبيعته وأسلوبه.. وأحب أن أشير هنا إلى أن التقويم عملية تأتي بعد التقييم، وذلك لأن التقويم أعم وأشمل من التقييم. فالتقييم عملية تختص ببيان قيمة الشيء؛ بمعنى أن التقييم أسلوب كشفي يكشف للمقيم حقيقة الشيء المراد تقييمه».

ولم يخف الحفظي أن التلاميذ يختلفون باختلاف الفروق الفردية؛ و«بالتالي نجد أن الفروق الفردية تلعب دورا لا يستهان به حيال سرعة وجودة إتقان المهارة. فهناك من التلاميذ من يتقن المهارة بشكل سريع؛ ربما في جزء من الحصة أو حصة فقط، بينما هناك تلميذ آخر يحتاج وقتا طويلا حتى يتقن المهارة.. وكذلك هي الحال في جودة الإتقان، فهناك من التلاميذ من يتقن المهارة بجود عالية، وهناك من لا يتقن بجودة. والملاحظ أنه كلما كانت المهارة أصعب، طالت فترة الإتقان».

وذكر الحفظي أنه في كلتا الحالتين يعتبر الصبر والتصحيح مفتاحا لما انغلق من السرعة والجودة، مشيرا إلى «أمر بالغ الأهمية؛ وهو التأكد من أن التلميذ لا يعاني من مشكلات عضوية كضعف البصر أو ضعف السمع، التي تحتم انتقال التلميذ إلى المقاعد الأمامية وإبلاغ المرشد الطلابي كي يتواصل مع ولي أمره لعرض المشكلة واتخاذ الإجراء المناسب لها. أيضا يجب التأكد من سلامة التلميذ نفسيا، فقد يكون مشتتا بسب طلاق الأم مثلا، أو يعاني ضغوطا نفسية تجعله شارد الذهن قلقا مذبذبا؛ وكل ذلك يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار قبل الحكم على التلميذ».

من جهته، قال الدكتور خليل الحربي، أكاديمي سعودي، إن القياس والتقويم مبنيان على المنهج، مشيرا إلى أن المقصود بالمنهج هو كامل العملية التعليمية، بما فيها المقررات، وموضحا دوره في بناء المقاييس بنوعيها؛ العام والخاص، وأنه يتم بشروط مقننة ومعايير محددة، واختبارات مسحية من المنهج الدراسي، ومستويات محددة وتحليل وتفسير للنتائج. ثم تطرق لشرح مفصل لآليات هذا القياس؛ النوع والإيجابيات التي يحققها.

إلى ذلك، خالفت الدكتورة منى الأحمدي، أستاذة المناهج في جامعة أم القرى، بأن التقويم المستمر يحمل مشكلة أساسية، مفادها أنه طبق دون أن توجد له سلفا الأرضية المناسبة للتطبيق؛ و«لهذا السبب فهمه البعض بعكس المراد منه، رغم أنه يعتبر الأنسب لتقييم المهارات».

وقالت الأحمدي: «كثير من المعلمين يرون أنه زاد من إهمال الطلاب وأدى إلى تراجع مستواهم العلمي، وفيما يحدد كثير من المعلمين إشكاليات النظام في تركيزه على الحد الأدنى من المهارات، والحفظ والتلقين، وعدم اكتراث كثير من المعلمين بآليات التطبيق، والزحام الكبير في الفصول، يرى البعض أهمية إخضاع النظام للتقييم بعد سنوات من تطبيقه، خاصة في ظل ضعف مستويات الطلاب في مهارات القراءة والكتابة والحساب».

وأفادت الأحمدي بأن ثمة معلمين انخرطوا في مهنة التعليم وهم لا يجيدون التعامل مع هذه المهارات؛ «لضعف الخبرة وعدم تدريبهم على أهداف التقويم المستمر. ولتحسين هذا النوع من التقويم، لا بد من إعداد معلم جيد قادر على إتقان عملية التقويم، من خلال استحداث مقرر يعنى بالتقويم المستمر في الكليات التربوية إذا استمرت وزارة التربية في إصرارها على تطبيق هذا النظام، ناهيك بعدم قناعة بعض المعلمين بأسلوب التقويم المستمر، مما يقلل من تحفيزهم للعمل فيه بجدية وهمة عالية، وضعف المستوى الأكاديمي للمعلم، وتمسك بعض المعلمين وتأثرهم القوي بالأسلوب التقليدي للتقويم؛ لأن المعلمين في المرحلة الابتدائية ذوي الخدمة الطويلة في التدريس، يرفضون التغيير في الغالب».