السعودية: رؤية تخالف توصية مجلس الشورى بربوية أموال سندات «التأمينات الاجتماعية» الاستثمارية

أستاذ اقتصاد مالي لـ«الشرق الاوسط» : قبول حرمة السندات مبنية على فتوى منذ 42 عاما رغم مخالفتها المذاهب الأربعة ومعظم أهل السلف

إحدى جلسات مجلس الشورى السعودي («الشرق الأوسط»)
TT

بادر خبير اقتصادي سعودي ومهتم بالبحوث في مجال العملات والشأن المالي إلى الاستدلال الشرعي حول تحريم سندات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، الاستثمارية بطرح رؤية مخالفة يشير فيها إلى أنها لا تعتبر «أموالا ربوية»، وذلك على خلفية ما تم بحثه مؤخرا على مستوى مناقشات مجلس الشورى.

وشهدت السعودية خلال الأسبوع الماضي احتدام النقاش في مجلس الشورى حول السندات المُستثمر بها من قبل «التأمينات الاجتماعية» ووصفها بأنها قروض ربوية مخالفة للشريعة الإسلامية ويجب التخلص منها، في نقاش لم ينته حول الحلال والحرام. وانتهت تلك الجلسة بالتوصية على المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية المثول والتقيد بالأحكام الشرعية في جميع أنشطتها واستثماراتها بل أن الدكتور عبد الرحمن الأطرم عضو مجلس الشورى أشار إلى وجود مبالغ كبيرة مستثمرة في السندات تتمثل في 47 في المائة من حجم الاستثمارات، واصفا السندات بأنها قروض ربوية مخالفة لشرع وما إلتزم به النظام الأساسي للحكم. في المقابل، يقول الدكتور حمزة بن محمد السالم أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة الأمير سلطان أن الموقف الذي دار خلال الأسبوع الماضي يؤكد أهمية الوقوف، وقفة مرجعها الكتاب والسنة ومنهجها سلفنا الصالح، مشيرا إلى الالتزام بحكم كتاب الله وسنة نبيه فيما تم التنازع فيه. واستند في ذلك الاعتماد على قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا». وبحسب ورقة أعدها الدكتور السالم وحصلت عليها حصريا «الشرق الأوسط» غطت الرؤية حول هذا الموضوع وسط اعتبارات مهمة أبرزها الاستدلال الشرعي من كافة أطياف المذاهب الماضية والمعاصرة. فبدأ بذكر أن الربا هو أعظم الذنوب بعد الشرك بالله كما روي عن الأمام أحمد، وتصنيف المعاملات بأنها حلال أو حرام وتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله أو تحليله هو أعظم منه حيث أنه شرك في الربوبية. إذ قال الله تعالى: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون»، مفيدا أنه لا يخفى على جميع أهل العلم «ويخفى للأسف على كثير من طلبة العلم فضلا عن عامة الناس» أن الربا لا يجري في أوراقنا النقدية المعاصرة عند جميع المذاهب الأربعة في المشهور عنهم، وعند الظاهرية وعند جمع من علماء الحديث والفقه من أهل السلف والمعاصرين. وأضافت الورقة، جاء تحريم الربا عاما دون تفصيل في القرآن كالصلاة والزكاة وفصلته السنة في قوله عليه السلام المروي في صحيح مسلم «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يد بيد». وبين الدكتور السالم رؤية الظاهرية حيث يقفون عند هذه الأصناف الستة فلا يتعدون بها إلى غيرها «فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرهما مما جعل نقدا، وتحريم الربا فيها تعبدي» انتهى. كما هو منصوص في بحث حكم الأوراق النقدية ضمن أبحاث هيئة كبار العلماء، مستشهدا بقول طاووس وعثمان البتي وأبو سليمان. وزاد «وممن أخذ بهذا القول أيضاً الأمام الصنعاني من فقهاء الحديث والأمام ابن عقيل من الحنابلة. قال الأمام الصنعاني «ولكن لما لم يجدوا ـ أي الجمهور ـ علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من انه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها».

وقال ابن عقيل وفقا للبحث «لأن علل القياسين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر فيه عله امتنع القياس».ووفق الورقة فيتوجه الحنابلة والأحناف أيضا إلى رأي «فلا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم ولا في الفلوس من غير ذهب أو فضه لأنها غير موزونة» انتهى. كما نص على ذلك الشيخ صالح بن فوزان عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية في بحثه «الفرق بين البيع والربا». وذلك لأن الحنابلة والأحناف قالوا إن العلة هي الزيادة في الوزن وأما المعدود فلا يجري فيه الربا. وأما الشافعية والمالكية فقال الشيخ عبد الله بن منيع «وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمينة وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين فالثمينة عندهما طارئة عليهما فلا ربا فيها» انتهى. ولفت السالم إلى أنه نتيجة لتلك الأقوال فعند الظاهرية والمشهور عن الأئمة الأربعة أنه لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم. وهو أيضا رأي الشيخ حسن أيوب، مفيدا أن هذا ما تنبه له مفتي السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم عندما وصف الأوراق المالية في عصره بأنها «نقد نسبي والاحتياط فيها أولى» (فتوى رقم 1639).

واستطرد السالم إلى قول الشيخ بن سعدي بعد ذكره للقائلين بأن هذه الأوراق أوراقا نقدية لأن المقصود بها أن تكون بدلا من الذهب والفضة: «ومنهم من أجراها مجرى النقدين وحكم عليها بحكم الذهب والفضة نظرا للقصد، فأن المقصود بها أن تكون بدلا من الذهب والفضة. واسترسل «وهذا المأخذ الذي أخذ به صاحب هذا القول من أن المقصود من الأوراق هو المقصود بالنقدين صحيح، ولكن هذا القصد لا يكفي في المنع وجريان الربا، بل لا يدفع ذلك أن يكون داخلا في النصوص الشرعية وقد علم أن الأوراق ليست ذهباً ولا فضة، فكيف تثبت لها أحكامها؟ فعلم بذلك أنه يتعين أن الصواب هو القول الثالث، وهو أنه لا يحكم لها بأحكام النقدين».

ثم قال «وهذه الأوراق الأنواط ليست ذهباً ولا فضة، لا شرعاً ولا لغة ولا عرفا، فكيف نلحقها بالذهب والفضة بمجرد أنه يقصد بها، ما يقصد بالذهب والفضة أن تكون قيم العروض وغيرها».

ثم زاد «تعين القول بإنها بمنزلة العروض، وبمنزلة الفلوس المعدنية، وأنه لا يضر فيها وفي المعاملة بها الزيادة والنقص والقبض في المجلس أو عدمه، مع ما في هذا القول من التوسعة على الخلق، والمشي على أصول الشريعة المبنية على اليسر والسهولة، ونفى الحرج وتوسيع ما يحتاج إليه الخلق في عاداتهم ومعاملاتهم» انتهى.

وأشار السالم إلى أن الفتوى السائدة اليوم والتي يظن كثير من الناس أنه لا مخالف لها رغم كثرتهم، والتي أتبعت رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في أطلاق الثمينة كعلة لجريان الربا في الأوراق النقدية بشرط ثبات قيمتها واستيداعها للثروة فتحتاج إلى إعادة نظر وذلك لتغير المعطيات التي بنيت عليها الفتوى.

وأوضح أن إلغاء الغطاء الذهبي للعملات الورقية بعد عام 1973 أدى إلى انتفاء صفة حفظ القيمة عن الأوراق النقدية وأصبح التناقص في قوتها الشرائية أصلا في طبيعتها وليس طارئا عليها، كما نوقش في المجمعات الفقهية من قبل في الليرة ونحوها. وأشار إلى ان ذلك يخالف شرط شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تبعه من العلماء والعقلاء والاقتصاديين بأن الشيء لا يكون ثمناً إلا بشرط ثباته النسبي في القيمة بحيث يكون مستودعاً للثروة. واستدل السالم بقول شيخ الإسلام «ولكن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا ترتفع قيمته ولا تنخفض... وذلك إنما يكون إذا كان ذلك الثمن باقياً على حال واحدة لا تزداد فيه القيمة ولا تنقص». وقال جرينسبان مدير البنك المركزي الأميركي السابق: «إنه في غياب نظام الربط بالذهب لا توجد طريقة لحماية الإدارات من المصادرة من خلال التضخم ولا يوجد هناك مستودع أمين للثروة». وهنا عاد السالم ليضيف في حيثيات فتوى هيئة كبار العلماء النص على صفة الثمن (وانتفاء الصفة انتفاء للموصوف)، «وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة وبه الإبراء العام».

وشدد السالم على النقاش الذي دار في مجلس الشورى حول سندات التأمينات الاجتماعية الاستثمارية ووصفها بأنها قروض ربوية مخالفة للشريعة الإسلامية، ويجب التخلص منها، وما يلزم من ذلك إلحاق أمور كثيرة بها سياسية واقتصادية واجتماعية، جاء من أجل فتوى نشأت عام 1965 عن مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة والتي أقرت بجريان الربا في النقود الورقية قياسا على النقدين.

وأشار إلى أن تلك الفتوى جاءت خوفا من إلحاق النقود الورقية بالفلوس أو عروض التجارة، فتسقط عنها الاعتبارات الشرعية الخاصة بزكاة النقدين في رأي عند الشافعية، فصدرت الفتوى بجريان الربا في النقود الورقية مخالفة بذلك لأراء المذاهب الأربعة ومعظم أهل السلف متبنية علة مطلق الثمينة إتباعا للقصد لا للصورة في القياس. وقال السالم: «فكما أننا قبلنا هذه الفتوى آنذاك رغم مخالفتها المذاهب الأربعة ومعظم أهل السلف، لأن الأوراق النقدية كانت مطابقة فيه آنذاك خصائص الأثمان من كونها مقياسا للقيم ومستودعا للثروة ولأن الصورة لم تكن واضحة عن حقيقة الأوراق النقدية وما ستئول إليه بعد 1973، أفلا يجدر بنا أن نعيد النظر فيها بعد اختلاف المعطيات التي بنيت عليها الفتوى عام 1965».

وزاد السالم: «بما أن الأوراق النقدية لا يجري فيها ربا البيوع عند المذاهب الأربعة ولا تنطبق عليها شروط مطلق الثمنية بعد عام 1973 من استيداع الثروة وقياس القيم الآجلة وأن ذلك أصل فيها وليس طارئ، فأن القول بجريان ربا البيوع في أوراقنا النقدية المعاصرة وهو قول مستحدث لا أصل له في أي من أقوال علماء السلف». وأضاف «والنتيجة التي ينبني عليها ذلك كثيرة من أهمها جواز بيع العملة بالعملة تفاضلا ونسيئة كما نص على ذلك الشيخ الدكتور الأشقر، مما يلغي كثيرا من التعقيدات والحدود التي وضعت على المسلمين وضيقت عليهم اقتصادياتهم وألجئتهم إلى الحيل وما ذلك إلا لتغليبهم الرأي على النص، ومبالغتهم في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل». ووصف هذا بأنه من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما وجب عليه؛ فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبداً؛ فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة. (من كلام شيخ الإسلام). ولفت السالم إلى أنه نتيجة لما تقدم فإن سندات التأمينات الاجتماعية الاستثمارية هي بيع وشراء أموال ليست بأموال ربوية فيجوز فيها الفضل والنسأ كما يجوز في السلع الأخرى، ويجب فيها الزكاة كما تجب في كل مال قابل للنماء. موضحا قياس إفتاء هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز الذي أجاز أن يعطي الرجل 40 من الغنم، على أن ترد له بعد أربع سنوات 80 من الغنم مقسطة على أربع سنوات أخرى، كل سنة يؤدي منها 20 رأسا وأن ليس في هذا ربا وكذلك جواز بيع ثياب متر واحد بمترين مؤجلا.

وذكر السالم بما رواه شيخ الإسلام أبن تيمية من أقوال كثيرة كأنه بها ينظر إلينا من شفاف الغيب، منها قوله في آخر بحثه عن الثمن وشروطه ووقوع الربا فيه من عدمه «وقد يفهمون من كلامه معنى عاماً يحرمون به، فيفضي ذلك إلى تحريم أشياء لم يحرمها الله ورسوله... وهذا قد دخل فيه على الأمة، يحرمون شيئاً من الأعيان والعقود والأعمال لم يحرمها الشارع. وزاد ـ والحديث ما زال لشيخ الإسلام «وقد ظن كثير من الناس انه حرمها، ثم إما أن يستحلوها بنوع من الحيل، أو يقولون بألسنتهم هي حرام، وعملهم وعمل الناس بخلافه، أو يلزمون ويُلزمون أحياناً ما فيه ضرر عظيم».