الصيرفة الإسلامية والاستثمار

TT

تعتبر الصيرفة الإسلامية كنموذج أعمال، أقرب إلى نموذج مصارف الاستثمار منها إلى المصارف التجارية، حيث إنها تقوم على قاعدة «الغنم بالغرم»، ومعناها ان من ينال نفع شيء يتحمل ضرره، ودليل هذه القاعدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه». والمقصود من غنمه زيادته ونتاجه، وغرمه هلاكه ونقصه وقاعدة الخراج بالضمان وهي حديث نبوي صحيحٌ، معناها ما خرج من منفعة عين فهو للمشتري مقابل ما كان عليه من ضمان الملك، فإنـَّه لو تلف المبيع كان عليه ضمانه، فالغلَّة له؛ ليكون الغنم مقابل الغرم. واصلها أنَّ رجلا ابتاع عبدا فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد فيه عيبا، فخاصمه إلى النبي فردَّه عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استعمل غلامي، فقال عليه السلام: «الخراج بالضمان». قال أبو عبيد: الخراج في هذا الحديث غلَّة العبد يشتريه الرجل فيستغلَّه زمانا، ثم يعثر منه على عيب دلَّسه البائع، فيردُّه ويأخذ جميع الثمن، ويفوز بغلَّته كلِّها؛ لأنه كان في ضمانه، ولو هلك هلك من ماله. فعمل الصيرفة الإسلامية يتضمن نوعا من المخاطرة تقل وتكثر وفقا للعقد الذي تقوم عليه المعاملة، ففي عقد المرابحة للآمر بالشراء مثلا تقل المخاطر إلى ان تكاد تصبح مخاطر ائتمان فقط، وتزداد وتيرة المخاطر كلما ابتعدت الصيرفة الإسلامية عن صيغ المداينات إلى صيغ المشاركات مثل عقود المضاربة والمشاركة والمشاركة المتناقصة. هذه هي الصورة التي يجب ان تكون عليها الصيرفة الإسلامية والتي قامت من اجلها وهو السعي لعمارة الأرض وتوزيع الثروة بين من يملكون ومن لا يملكون توزيعا عادلا تتحقق فيه معادلة الخراج بالضمان والغنم بالغرم. إلا ان هذه الصورة لم تتحقق، فمالت الصيرفة الإسلامية إلى استخدام أسلوب المداينات وغلبت صيغة التورق اليوم على جل معاملاتها، وحجة القائمين على الصيرفة الإسلامية في التوجه نحو المداينات هو ان الكثير من الأنظمة التي تحكم عمل هذه المصارف هي أنظمة مصرفية تقليدية تلائم أسلوب الإقراض والاقتراض التقليدي القائم على الفائدة، ولم تراع خصوصية الصيرفة الإسلامية القائمة على أسلوب المشاركة أخذا وإعطاء، فحدت هذه الأنظمة من حركة الصيرفة الإسلامية وقدرتها على تطوير المجتمعات التي تعمل فيها والمساهمة في تنميتها بأسلوب مالي إسلامي أصيل بعيدا عن محاولة مجاراة الصيرفة التقليدية في أدواتها.

إلا أننا وان قبلنا بمثل هذه الأعذار في نشاط الصيرفة الإسلامية التجارية، أننا لا يمكن ان نقبل بها في نشاط الصيرفة الإسلامية المتعلق بالاستثمار، حيث المجال للإبداع أوسع وأرحب، فهذا هو مجال الصيرفة الإسلامية الحقيقي والمبني على معادلة الغنم بالغرم والخراج بالضمان. حيث يمكن إعمال جميع عقود المعاملات الواردة في الكتاب والسنة وتخريجاتها الموجودة في كتب الفقه مثل عقود المضاربة بأنواعها، والمشاركة والإجارة والسلم والاستصناع وغيرها من العقود المسماة مع إمكانية الابتكار والتجديد في مجال العقود والصور بلا حدود سوى ما حدته الشريعة الإسلامية.

إذ ان الأصل في المعاملات الحل إلا ما ورد الشرع بتحريمه، ومع ان هذا هو مجال الصيرفة الإسلامية وميدان سبقها، إلا إننا نجدها متأخرة فيه أشواطا عن مثيلتها التقليدية لا من حيث الأدوات والعقود، ولا الكفاءات البشرية المؤهلة فإذا أجلت بصرك فيما حولك من أدوات استثمارية إسلامية فأحصيت صورها وجدتها لا تكاد تتعدى الاستثمار في بورصات الأسهم أو المتاجرة في السلع بالآجل وبعض الصناديق العقارية وكلها استثمارات هامشية طفيلية لا تساهم في أي تنمية للمجتمعات التي تعمل فيها، فلا ينتج عن استثماراتها أي توليد لوظائف جديدة في المجتمع. كما أنها لا تساهم في جلب التقنية وتوطينها أو المساهمة في خلق اقتصاد صناعي أو تجاري يساهم في زيادة الدخل القومي والانتقال بمجتمعاتها من مجتمعات مستهلكة إلى مجتمعات منتجة أو المساهمة في تطوير البنى التحتية لمجتمعاتها كالتعليم والطبابة والنقل وغيرها من احتياجات المدنية الحديثة التي تحتاجها المجتمعات الإسلامية بقوة. بل ان وجد مثل هذه الصناديق التي تستثمر في مثل هذه الأنشطة وهي قليلة فتجد استثمارها يصب في اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى مع حرمان مجتمعاتها التي هي بأمس الحاجة إلى هذا النوع من الاستثمار، وكل ذلك راجع إلى ان من يدير هذا النوع من الاستثمار ليسوا من أبناء هذه المجتمعات أو ممن يحمل هم النهضة بها فإلى متى نكل أمورنا إلى غيرنا. لقد آن الأوان لأموال هذه الأمة ان تساهم في نهضتها لا ان تكون كما قال الشاعر (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول) وهذا واجب المؤسسات المالية الإسلامية التي لن يقوم به غيرها، كما يجب على الهيئات الشرعية النظر في إعمال سياسة الفتوى في مثل هذه الاستثمارات قبل النظر في الصور، بحيث تحقق مقاصد الشريعة في الاستخلاف.

والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]