الخويلدي لـ «الشرق الأوسط»: المعيار الشرعي أكد مبدأ مشروعية التحكيم كآلية لفض النزاعات

مدير المركز الإسلامي للتحكيم ينتقد تحويل النزاع إلى جهات غير إسلامية

TT

انتقدت جهة حقوقية وتحكيمية إسلامية توجه النزاعات والخلافات في المنتجات والمصارف الإسلامية إلى جهات غير إسلامية، قائلة إنه ليس مبررا في الوقت الراهن نتيجة ظهور أجهزة وجهات إسلامية متخصصة في مجال التحكيم والمصالحة. وقال لـ«الشرق الأوسط» الدكتور عبد الستار الخويلدي، مدير عام المركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم، ومقره دبي، إن المعيار الشرعي أكد مبدأ مشروعية التحكيم كآلية لفض النزاعات، وأنه قد عرّف معيار التحكيم على أنه: «اتفاق طرفين أو أكثر على تولية من يفصل في منازعة بينهم بحكم ملزم»، وهو نفس المفهوم تقريبا الذي تبناه مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة في قراراه، حيث ورد في القرار المذكور أن «التحكيم اتفاق طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية».

وتشكّل الإجازة المسبقة لمعاملات المؤسسات المالية الإسلامية من قبل هيئاتها الشرعية ضمانة لسلامة تلك المعاملات من العيوب الشرعية، ومثل هذه الإجازة المسبقة بالرغم من أهميتها من الناحية الوقائية إلا أنها لا تلغي نشوب الخلاف بسبب ما يطرأ على المعاملات بعد تنفيذها من عناصر خارجية تؤدي إلى الاختلاف في قراءة وتفسير شروط المعاملة.

وتوقع الخويلدي أن وجود هذا المعيار، إلى جانب وجود مركز تحكيم متخصص في فض النزاعات في المعاملات المالية الإسلامية، وهو المركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم، سيقلص من المخاطر القانونية التي تتعرض لها المؤسسات المالية الإسلامية والتي تضرر البعض منها من عرض قضاياها على المحاكم الغربية التي استبعدت تطبيق الشريعة لأسباب مختلفة. وأضاف الخويلدي أنه لا يختلف مفهوم التحكيم في الفقه الإسلامي عن المفهوم المتداول في القوانين الوضعية من حيث تفويض شخص من غير التابعين للنظام القضائي الرسمي للبت في النزاع. فالتحكيم سواء في القانون الوضعي أو في الفقه الإسلامي هو عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضاهما شخصا آخر حكما بينهما للفصل في خصوماتهما. والمُجمع عليه فقهيا أن التحكيم جائز شرعا من نص القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع. وكانت دراسات قد أثبتت من خلال بعض الأحكام الصادرة عن المحاكم أن القضاء، علاوة على ما يتصف به من بطء في تسوية النزاعات بسبب التأجيل المتكرر للجلسات، وتعدد درجات التقاضي، وانتداب الخبراء، وغيرها من الأسباب، لم يأخذ بعين الاعتبار في كثير من أحكامه خصوصية منتجات الصناعة المالية الإسلامية، التي تعتبر في الحقيقة وإلى وقت قريب عقودا غير مألوفة لدى الجهاز القضائي. وشهدت صناعة المصرفية الإسلامية خلال العام 2007 صدور معيار شرعي يتعلق بالتحكيم من منظور إسلامي، سعى إلى التوفيق بين المحيط القانوني الذي تعمل فيه المؤسسات المالية الإسلامية والثوابت الفقهية المجمع عليها في مجال التحكيم.

وهنا، يبين الخويلدي أن الحديث عن واقعية المعيار يجر إلى كيفية توفّق المعيار في عدم التصادم مع القوانين الوضعية من ناحية وفي ترك المجال للقانون لسد الفراغ، وذلك بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية. وتابع الخويلدي أن هناك بعض العينات لهذا الرأي منها اعتماد العدد الوتر في الهيئة التحكيمية، والتي تشترط القوانين الوضعية دون أي استثناء بأن يكون عدد المحكمين وترا، والمعروف في الفقه الإسلامي أنه لا يشترط أن يكون العدد وترا، بل يجوز أن يكون عدد المحكمين شفعا. وأضاف الدكتور الخويلدي أن الشواهد التاريخية تدل على تولي التحكيم من قبل المحكم الفرد، أو أن يعين كل طرف محكمه دون الإشارة إلى محكم ثالث مرجح، وأنه إدراكا من المعيار أن العدد الشفع قد يعطل إصدار الحكم بسبب احتمال إصرار كل محكم على موقفه دون وجود حكم مرجح، فقد نصت الفقرة 8/3 من المادة الثامنة على أن «الأولى أن يكون العدد فرديا، فإن لم يكن كذلك فيعين أطراف النزاع أو المحكمون أحد المحكمين رئيسا لهيئة التحكيم، ويكون رأيه مرجحا عند تساوي الآراء». ومن بين عينات هذا المعيار، يضيف الدكتور الخويلدي، اختيار القانون الواجب التطبيق بما لا يخالف الشريعة، عملا بأحكام الفقه الإسلامي، وأن اشتراط المعيار أن لا يخالف القانون الذي اختاره أطراف النزاع أحكام الشريعة الإسلامية، فيه إشارة إلى الاحتكام إلى القانون الوضعي ما لم يكن مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية. وهذا يؤكد أن أحكام القانون الوضعي لا تخالف أحكام الشريعة بصفة مبدئية خاصة أن مجال التحكيم التجاري هو في صميم فقه المعاملات، وهو فقه يلتقي مع القانون الوضعي في كثير من المبادئ الكبرى. وقال: «تتضمن العينات تحكيم غير المسلم، وأن الواقع العملي في المعاملات المالية الإسلامية يقتضي أن تعين كل مؤسسة مالية محكمها. وقد تكون إحدى المؤسستين غير إسلامية، أو يكون عميل المؤسسة الإسلامية غير مسلم. فيتم تعيين محكم غير مسلم». وفيما يتعلق بجواز تعيين محكم غير مسلم للنظر في مسائل لها علاقة بتطبيق فقه المعاملات، أوضح الخويلدي أن المعيار بين أن «الأصل أن يكون المحكم مسلما، وإذا دعت الحاجة المتعينة إلى اختيار محكم غير مسلم فيجوز ذلك للتوصل لما هو جائز شرعا...» (الفقرة 8/2). ويستنتج من نص المعيار أن اللجوء إلى المحكم غير المسلم في المسائل التي لها علاقة بتحكيم الشرع ليس الأصل، وإنما يكون عند الحاجة لذلك. ويعتقد مدير عام المركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم أن المعاملات المالية الإسلامية هي ثقافة وليست نصوصا فقط، فلا يمكن أن نطلب من المحكم على سبيل المثال تطبيق بنود عقد الإجارة المنتهية بالتمليك والضوابط التي تحيط به، والعلاقة بين المضارب ورب المال وغيرها إذا كان لا يملك دراية واسعة بالقواعد الكلية في فقه المعاملات. ويضيف الخويلدي أن مبدأ أن العقد شريعة الأطراف، وهي قاعدة معتمدة شرعا وقانونا، لا يمكن أن يشكل لوحده مفتاحا لتفسير كل المسائل القانونية والشرعية التي تطرحها المعاملة. ويحتاج المحكم إلى قواعد أخرى مساندة. وبناء عليه، يتعين على المحكم، مسلما كان أو غير مسلم، أن تكون لديه دراية أوسع من قانون بلده أو المدرسة القانونية التي نشأ فيها خاصة في مجال التحكيم الدولي. كما أوضح مدير المركز أن استبعاد المحكم غير المسلم من التحكيم في المعاملات المالية الإسلامية إذا تم فسوف لن يكون بسبب دينه، وإنما بسبب ما يحمله من ثقافة قانونية تسيطر عليها مسلّمات تعتبر الفائدة جزءا أساسيا في المعاملات المالية، وترى في غرامات التأخير معاملة عادلة لما فات الدائن من كسب دون النظر في عسر المدين وغيرها. فإذا أثبت المحكم غير المسلم دراية بأصول المعاملات المالية الإسلامية دراية واسعة فوجوده في هيئة تحكيم إلى جانب المسلمين سوف يكون له الأثر الإيجابي على الحكم. ويشدد الخويلدي على أنه بعد ظهور جهات تحكيم إسلامية متخصصة في المعاملات المالية الإسلامية، أصبحت مسألة إحالة النزاع إلى جهات تحكيم غير إسلامية غير مبررة. ومن ضمن العينات التي يستشهد بها الدكتور عبد الستار الخوليدي الإشارة للتحكيم المؤسسي، حيث إن السائد أن التحكيم في التاريخ الإسلامي لم يكن مؤسسيا، أي لا نعرف وجود جهة تحكيمية هدفها ووظيفتها تنظيم فض النزاعات في أماكن وأوقات محددة، وعادة ما يكون المحكم فردا واحدا، ويبت في النزاع في الحين. لكن المعيار الشرعي المذكور أشار للتحكيم المؤسسي وأخذ بما يوفره من إيجابيات. كما أن التخلي عن العدول عن التحكيم بالإرادة المنفردة كواحد من العينات هو الآخر له أهمية، وأن كتب الفقه فيها ما يؤكد جواز الرجوع في التحكيم ما لم يصدر حكم المحكمين. ويوضح الخويلدي أن عدم إشارة المعيار إلى الحق في الرجوع فيه دلالة على عدم قبول مثل هذا الحق من جانب واحد. ويكمن تفسير عدم حق رجوع أحد طرفي النزاع في مبدأ اللجوء إلى التحكيم في أن الشرط على التحكيم في عقود المعاملات المالية عموما والمصرفية خصوصا هو جزء من المعاملة. وأن جل المؤسسات ما كانت لتقبل الدخول في المعاملة لولا هذا الشرط . فالرجوع فيه بإرادة منفردة كالرجوع في بند آخر من بنود العقد، ومخالفة بنود العقد من جانب واحد، مرفوضة شرعا وقانونا. وأكد الخويلدي في أن هذا المعيار نجح إلى حد كبير في التوفيق بين السائد في القانون في مجال التحكيم وبين الفقه الإسلامي. وهذا اجتهاد مشكور لأن التوفيق تم دون التنكر للقواعد الفقهية المجمع عليها. ونلمس هذا التوفيق في كثير من الفتاوى الشرعية الصادرة عن اللجان الشرعية والمجامع الفقهية. كما أن صدور المعيار سيرسم الطريق لصدور أحكام مطابقة للشريعة الإسلامية من متخصصين في المعاملات المالية الإسلامية بشقيها الفني والشرعي. وأنه بعد أكثر من 30 عاما من ممارسة الصناعة المالية الإسلامية عموما والعمل المصرفي الإسلامي المنظم خصوصا، توفرت في نفس الوقت طاقات بشرية متمرسة في استيعاب تفصيلات المسائل المالية المعاصرة واقتراح الحلول المناسبة لها بما لا يصادم القوانين الوضعية ولا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية.

عبد الستار الخويلدي