الهيئات الشرعية من الفردية إلى المؤسسية

لاحم الناصر

TT

تعاني الصيرفة الإسلامية من أمراض المجتمعات الإسلامية التي من أخطرها طغيان الفردية على المؤسسية في هذه المجتمعات، والسبب في ذلك هو تعلق هذه المجتمعات بالأفراد وما يمثلونه من آراء أو قيم. فأصبح بعض الأفراد ممن أوتوا حظا من الشهرة أو الكاريزما الشخصية هم من يقودون المجتمع ويشكلون هويته ووجدانه وهم بوصلته التي تحدد له الخطأ والصواب وما ينبغي وما لا ينبغي وبالتالي فإن هذه المجتمعات تصبح أسيرة للآراء الشخصية وما يعتري أصحابها من تغيرات وما يخضعون له من عوامل تشكل هذه الآراء مثل عوامل العادات والتقاليد والبيئة المحيطة بهم والضغوط التي يتعرضون لها أو عوامل السمات الشخصية مثل حرية التفكير واستقلاليته والقدرة على استيعاب المتغيرات من عدمها والذكاء ودرجة التحصيل العلمي. وتحيط هذه المجتمعات هؤلاء الأشخاص بكثير من الإجلال والتقدير الذي قد يجاوز الحد فيصل في بعض المجتمعات والمذاهب إلى حد العصمة ان لم تكن قوليه ففعلية بحيث ان هذه المجتمعات قد لا تصرح بعصمتهم ولكنها عمليا تمنحهم هذه الصفة مما يجعلهم فوق المحاسبة أو النقد مع تلمس الأعذار لهم فيما يخطئون فيه ومحاولة تخريج أقوالهم وتأويلها وكأنها الوحي المنزل من رب العالمين. وهذا ما لم يكن عليه المجتمع المسلم في عصر الرسالة والوحي حيث تعرض الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمقاطعة عند إلقائه لخطبه عدة مرات احداها كانت من امرأة احتجت على توجهه نحو تحديد المهور ورجع رضوان الله عليه لقولها. كما تنبه السلف الصالح إلى خطورة هذا المسلك على المجتمع فجاءت أقوالهم معبرة عن هذا الخوف محذرة من هذا المسلك قال ابن عباس: توشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله وانتم تقولون: قال ابو بكر وقال عمر. ونبه علي إلى ذلك إمام دار الهجرة مالك فقال: كل منا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار بيده إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا السلوك من المجتمعات الإسلامية يبقيها أسيرة العمل الفردي البعيد عن المؤسساتية التي اصطبغت بها المجتمعات المعاصرة وكانت سببا في نهوضها. كما انه يؤدي بالمجتمعات الإسلامية إلى عدم الاحتفاء بالآراء المؤسساتية والاعتداد بها فكم من الناس اليوم لو سألته عن فتوى في مسألة ما من المسائل المشتهرة يستطيع ان يستحضر رأي هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء أو مقررات المجامع الفقهية في هذه المسألة مقابل ما يستطيع ان يستحضره من أقوال مشاهير الشيوخ في هذه المسألة. لقد أدى هذا السلوك المجتمعي بالمؤسسات المالية إلى السعي لاستقطاب هؤلاء المشايخ للعمل في الهيئات الشرعية حيث بوجودهم تكتسب أعمال هذه المؤسسات الشرعية وبالتالي تستطيع بيع منتجاتها للجمهور وقد أدى هذا الاستقطاب إلى تحول هؤلاء المشايخ إلى عملة نادرة يصعب العثور عليها مما يشكل احد أهم التحديات أمام انتشار وتوسع الصيرفة الإسلامية اليوم. كما انه احد العوامل التي تحد من الابتكار في هذه الصناعة حيث تطول فترة انتظار المؤسسات المالية في سبيل الحصول على إجازة منتجاتها النمطية فما بالك بالمبتكرة. كما ان هذا الاستقطاب الشديد أدى إلى ضعف في الجودة الشرعية في الفتوى والرقابة الشرعية حيث لا يجد الكثير من هؤلاء المشايخ الوقت الكافي لدراسة المنتجات أو مراقبتها فضلا عن الابتكار والتطوير. وقد ظهر هذا الأمر جليا فيما تعرضت له تجربة صكوك المشاركة من نقد لشرعيتها من قبل بعض المشايخ ومن ثم مراجعتها وتصحيحها إضافة إلى ان الهيئات الشرعية بحالتها الراهنة تعاني من وجود تعارض في المصالح وعدم القدرة على محاسبتها أو مراقبة أعمالها، وبالتالي فإنني أرى انه قد آن الأوان لتحول الهيئات الشرعية للعمل المؤسسي بدلا من الفردية بحيث يتولى هذه المهمة مؤسسات مهنية شرعية متخصصة تضم علماء شريعة وباحثين اقتصاديين ومصرفيين على ان تقوم هذه المؤسسات بالفتوى والمصادقة على منتجات المؤسسات المالية وفق نظم وقواعد وإجراءات مكتوبة تتم محاسبتها عند إخلالها بأي منها أو تجاوزها لها.

ان وجود هذه المؤسسات سيقلل من الاستقطاب الحادث اليوم لقلة من علماء الشريعة مما سيوسع من دائرة الاستفادة من بقية العلماء الموجودين ويسرع من إجراءات المصادقة على المنتجات ويؤدي إلى الابتكار والتطوير الأصيل لمنتجات الصيرفة الإسلامية النابع من رحم الشريعة والمتفق مع مقاصدها. كما انه سيؤدي إلى معيارية هذه المنتجات واستقرارها ويعطي الجهات الرقابية القدرة على المحاسبة والمراجعة لإعمال الهيئات الشرعية.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]