سقوط الرأسمالية بين سحر الأمنيات وحقائق المشهد

لاحم الناصر

TT

في خضم الأزمة المالية العالمية المدوية والتي هزت أركان النظام الرأسمالي حول العالم من شماله الغني إلى جنوبه الفقير وبجميع أنظمته الديمقراطية والدكتاتورية، تعالت الأصوات هنا وهناك من قبل بعض من تحركهم العواطف وتسحرهم الأمنيات بعيدا عن حقائق المشهد وتداعياته وأخص بالذكر هنا بعض الكتاب والمفكرين والدعاة من المسلمين الذين بشروا بسقوط الرأسمالية وإفلاس دولها وقرب سيادة نظام الاقتصاد الإسلامي. إلا انه بعد انقشاع غبار السقوط المدوي للمؤسسات المالية الأميركية وبداية ظهور آثار الأزمة المالية الأميركية على المنظومة المالية العالمية حيث تبين ان الانهيار لن يقتصر على المؤسسات المالية الأميركية بل ستتضرر الكثير من المؤسسات المالية حول العالم، بل ان هذا السقوط خلف أزمة ثقة ولدت أزمة ائتمان عالمية. كما ان هذه الأزمة امتدت لتشمل الاقتصاد الحقيقي حول العالم حيث أظهرت هذه الأزمة مدى ترابط الأسواق العالمية وتأثرها ببعضها البعض فهوت أسعار البترول وأسعار السلع الأولية وأسواق النقل والسياحة والعقار حول العالم وضعفت القدرة الشرائية وزادت معدلات البطالة حول العالم من نيويورك إلى دبي وعانت المؤسسات الخيرية حول العالم. كما عانت جميع القطاعات حتى الرياضية حيث انسحبت شركة هوندا من رعاية «الفورميلا ون»، ولم تعد هناك حصانة لأي نظام أو دولة من التعرض للأزمة.

وهنا أفاق العالم على مدى شدة ارتباط اقتصاده باقتصاد أميركا وأحس العالم بقوة الاقتصاد الأميركي وشدة وطئته في الأزمة أكثر من إحساسه بها في حال قوته. كما أظهرت هذه الأزمة سعة انتشار الفكر الاقتصادي الرأسمالي وتغلغله في جميع الأنظمة السياسية حول العالم حتى النظم الاستبدادية كالصين. كما تبين ان أكثر المتضررين من هذه الأزمة هي دول العالم الثالث النامي والاقتصاديات الناشئة حول العالم وهي تضم دولا إسلامية عديدة تعرضت اقتصادياتها لخسائر فادحة. كما يتوقع ان تعاني الكثير من الدول الإسلامية التي كانت تتميز بسرعة في النمو إلى تباطؤ في نموها مما سيؤثر على المشاريع التنموية بها. ولا شك ان هذه الآثار الناجمة عن هذه الأزمة وما خلفته وستخلفه على الدول الإسلامية من تداعيات ستتطلب من الذين فرحوا بهذه الأزمة إعادة النظر في موقفهم المتشفي والذي يتحدث بلغة المنتصر إلى لغة أكثر عقلانية واقرب إلى الواقع لا سيما أننا لم نشهد سقوط الدول التي تتزعم النظام الرأسمالي أو تفكك هذا النظام، بل شهدنا كيف استطاعت الدول الغربية حشد جميع القوى العالمية في سبيل تخطي الرأسمالية أزمتها الراهنة مع إجراء بعض التعديلات عليها. ان ما سقط حقيقة لا يعدو ان يكون نموذجا من نماذج الرأسمالية المالية وهو النموذج الأنغلوساكسوني والذي يدعو إلى حرية الأسواق بعيدا عن تدخل الدولة مع فرض اقل ما يمكن من التشريعات والأنظمة المقيدة لهذه الحرية. كما ان هذه الأزمة وبقدر ما سلطت الضوء على نموذج الصيرفة الإسلامية كنموذج مالي لم يتعرض للأزمة مباشرة إلا أنها أظهرت مدى حاجة النظام المالي الإسلامي لنظام سياسي يتبناه ويرعاه ويدعمه حيث لا يمكن لأي نظام اقتصادي ان ينتشر ويقوى إلا بدعم سياسي. كما كشفت هذه الأزمة عن قلة الأبحاث والمؤلفات العلمية البعيدة عن السطحية التي تشرح هذا النظام والمكتوبة بلغة علمية رصينة بعيدة عن العاطفة ومترجمة إلى اللغات العالمية الحية بحيث يمكن للعالم ان يفهم هذا النظام وقد ظهر جليا هذا القصور في غياب الكتب التي تعرض النظام المالي الإسلامي عن معرض فرانكفورت للكتاب إبان الأزمة حيث طغت مبيعات كتب ماركس على مبيعات الكتب الاقتصادية نظرا لسعي الكثيرين لفهم أسباب الأزمة والبحث عن المخرج منها. ولا شك ان هذا القصور في شرح النظام والسعي لإيصال صوته للعالم ناتج عن نقص المراكز البحثية المتخصصة في هذه الصناعة والمؤسسات الخدمية لها كمراكز تطوير المنتجات ومراكز الاستشارات المالية والقانونية المتخصصة. لقد أظهرت الأزمة كذلك عدم وجود نموذج عمل قائم للنظام المالي الإسلامي يمكن ان يطبق يغطي جميع الجوانب المالية حيث لا يمكن ان يختزل النظام المالي الإسلامي في النظام المصرفي الإسلامي فقط. إننا نؤمن بأن النظام الرأسمالي هو نظام بشري في سبيله للتبدل والزوال كما زالت الاشتراكية والإقطاعية والبرجوازية، وهذه سنة تاريخية كما نؤمن بأن الحل هو في اتباع النموذج المالي الإسلامي وانه سيسود لا محالة، ولكننا نعلم ان الله جعل لكل شيء سببا ولكل شيء قدرا. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]