بوصلة الصيرفة الإسلامية

لاحم الناصر

TT

البوصلة أداة ملاحية لتحديد الاتجاهات على كوكب الأرض وتقوم بهذا العمل بفضل وجود مؤشر مغناطيسي يدور بحرّية ليوجه نفسه بدقة نحو المجال المغناطيسي للأرض وتتجه دائما للشمال مما يتيح لمستخدمها تحديد الاتجاهات فلا تتيه السفن في لجج البحار ولا القوافل في مجاهل الصحارى والقفار.

وعندما تختل البوصلة لأي سبب من الأسباب تصبح عديمة الفائدة، بل انها تصبح وبالا على مستخدمها إذا كان غير عالم باختلالها حيث يتبعها فيضّيع وجهته التي يريدها بل قد يتيه في لجج البحار ومجاهل الصحارى والقفار مما يتسبب في هلاكه.

والهيئات الشرعية في المؤسسات المالية هي بمثابة البوصلة لهذه المؤسسات التي تهديها وتدلها في خضم هذا البحر اللجّي من الشهوات والشبهات للعمل وفق أحكام الشريعة الإسلامية مؤشرها الاجتهاد الصحيح ومجالها المغناطيسي مصادر التشريع في الإسلام وهي الكتاب والسنة والإجماع. ويحدث الخلل في هذه البوصلة إما بعدم أهلية أعضاء الهيئة الشرعية للإفتاء فيما يعرض عليهم أو لفساد المنهج الذي قامت عليه الفتوى مثل ان تقوم على التلفيق بين المذاهب وتتبع الرخص وزلات العلماء أو لعدم بذل الجهد اللازم للوصول للحكم الشرعي الصحيح. ولأن هذا الخلل الذي يصيب هذه البوصلة يتعدى ضرره المفتي والمفتى له إلى المجتمع ككل نظرا لما تتمتع به الهيئات الشرعية من القبول المفضي إلى تقليدها فيما أفتت به من قبل هذا المجتمع فزلتها تعتبر من زلة العالم التي جاءت الأحاديث والآثار محذرة منها. فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا (إنَّ أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَاتَّهِمُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (يُفْسِدُ النَّاسَ ثَلَاثَةٌ: أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ حَقٌّ، وَزَلَّةُ الْعَالِمِ). لا شك ان الناظر اليوم في حال الهيئات الشرعية وما يصدر عنها يدرك مدى الخلل الذي أصاب هذه البوصلة سواء من حيث اصل وجودها الماثل في عدم أهلية بعض أعضائها ومن يتصدرون الفتوى فيها، حيث أصبحت عضوية الهيئة الشرعية حماً مستباحا لكل مدع فتجد في عضويتها المحاسب والاقتصادي. إذ لم تعد عضويتها مقصورة على من يحملون العلم الشرعي ممن تلقوه على أصوله المرعية أو من حيث استمداد الأحكام حيث تجد الكثير من فتاوى هذه الهيئات الشرعية قائمة على التلفيق بين المذاهب وتتبع زلات العلماء. ويظهر هذا جليا واضحا في الصيرفة الإسلامية في ماليزيا التي لا تجد رخصة في مذهب من المذاهب في مجال المعاملات إلا وقد أخذ بها فأبيح بيع العينة وبيع الدين على غير المدين وأخذ غرامة التأخير. كما أجازت بعض الهيئات الخليجية قلب الدين على المدين والجمع بين الأجرة والقرض في بطاقات الائتمان والوعد في المصارفة مع اخذ مقابل مالي للوعد، وهذا لعمري هو حقيقة عقد الخيار المحرم في الشريعة الإسلامية والتورق المنظم الذي هو في حقيقته عينه ثلاثية. ومن هنا فقدت الصيرفة الإسلامية بوصلتها التي ترشدها إلى مرفأ الشريعة الإسلامية الصافية النقية كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والتي تحقق الخير للبشرية جمعاء بما تحتويه من مقاصد تحقق مصالح جمة للفرد والمجتمع. ففقدت الصيرفة الإسلامية أهم ميزاتها التي بإمكانها إنقاذ العالم مما يعاني منه من أزمات حيث أصبحت جسدا بلا روح فهي تقدم شكل الشريعة لا مقاصدها، حيث أصبحت المصارف الإسلامية قائمة على المديونية لا فرق بينها وبين البنوك التقليدية سوى في شكل هذه المديونية حيث يشكل التورق 85% من إجمالي عمليات التمويل لديها إضافة إلى ان حوالي 55% من إجمالي أصول الصناديق الإسلامية في العالم يستثمر في المرابحات الدولية.

والحقيقة أنني آسى على الصيرفة الإسلامية بحالتها الراهنة عندما اقرأ ما يكتب في الصحافة الغربية من انها صيرفة قائمة على المشاركة في الربح والخسارة وأنها لا تشجع على المديونية، والحقيقة ان من يكتب مثل هذا الكلام إما شخص قرأ عن الفكر الذي تقوم عليه الصيرفة الإسلامية ولم يخبر بعد واقعها أو انه شخص عرف واقعها ولكنه يريد ان يصدم مجتمعه بالتناقض الذي تعيشه الصيرفة الإسلامية بين المنهج وبين الواقع ليثبت لهم ان المسلمين ليسوا أفضل حالا من غيرهم في مجال التحايل على مبادئ دينهم والتي طالما عيروا بها أهل الأديان الأخرى. وبالتالي فيجب على المخلصين لهذا الدين الغيورين عليه إصلاح بوصلة الصيرفة الإسلامية لكي نستطيع بواسطتها الإبحار من جديد لتقديم هذا الدين هدية للعالم مرة أخرى. كما فعل أجدادنا من التجار في شرق آسيا، حيث نشروا الدين الإسلامي بأخلاقهم وتعاملهم وفق تعاليم دينهم دون حروب أو فتوحات.

والله الموفق

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]