الأزمة المالية فرصة ذهبية للصيرفة الإسلامية

لاحم الناصر

TT

كانت الصيرفة الإسلامية قبل الأزمة المالية تعاني من التجاهل والتهميش من قِبل المؤسسات الدولية، فلم تكن المؤسسات الدولية التي تُعنَى بوضع المعايير للصناعة المالية تأخذ في حسبانها الاختلاف بين الصيرفة الإسلامية والصيرفة التقليدية عند وضعها لهذه المعايير كلجنة بازل وهيئة المعايير المحاسبية الدولية. كما أن الكثير من المؤسسات المالية الغربية كانت تنظر إليها على أنها صيرفة بدائية بسيطة لا تجاري العصر وما استُحدث فيه من أدوات مالية خلاّقة ومعقدة بهرت العالم تقوم على النظريات والمعادلات الرياضية التي يصوغها أبرز علماء الرياضيات في العالم، ومنهم من نالوا جائزة نوبل الذين كانت تستقطبهم وتوظفهم المؤسسات المالية لهذا الغـرض. وبالتالي فهي تعيق نمو وتطور الأسواق المالية في البلدان التي تنتشر فيها. كما أن الكثير من الدول الغربية كانت تنظر إليها على أنها صناعة مالية أيدلوجية قائمة على تعاليم دينية لا حقائق علمية، فهي تستمدّ قوتها وانتشارها من إيمان المؤمنين بها، وبالتالي فهي تتعارض مع الفكر المعاصر القائم على العلم والبرهان، ومن ثم فهي خطر على مبادئ العلمانية. إلا أن الأزمة المالية أظهرت للعالم فساد الكثير من الأصول والنظريات والمعادلات الرياضية التي يقوم عليها الكثير من الأدوات المالية المعاصرة وأنها كانت العامل الرئيس في سعة انتشار هذه الأزمة المالية وشدة وطأتها التي لم يشهد لها العالم مثيلا. حيث تسببت في إفلاس الكثير من المؤسسات المالية العريقة واختفائها في مشهد دراماتيكي قل أن يشهد العالم نظيره، حيث اختفت وفي لمح البصر الكثير من المؤسسات المالية التي كان يُنظر إليها في العالم كمثال على المؤسسة الماليــة المحترفة كمصرف «ليمان برذر» و«ميرلنش». ولم تقتصر الأزمة على المؤسسات المالية بل امتدت آثارها حتى ألقت بثقلها على الكثير من المؤسسات الاقتصادية والصناعية، فها هي «جنرل موتورز» فخر الصناعة الأمــريكية تســير متثاقلة الخطى نحو إعلان الإفلاس، وشركة «تويوتــا» تعلن خسائر لأول مرة في تــاريخها. ومع اتساع الأزمة وانتشارها لفت نظر المراقبين ثبات وصمود المؤسسات المالية الإسلامية أمام هذه الأزمة حيث لم تعلن أي مؤسسة مالية إسلامية عن خسائر بسبب الأوراق المالية التي نشأت عنها الأزمة. بل إن الكثير منها أعلن عن نمو أرباحه، فبدأ الكثيرون يثنون على المبادئ التي تقوم عليها والقوانين الشرعية التي تحكمها ويطالبون بالأخذ بها لتقويم النظام المالي العالمي، ولعل آخر هذه الدعوات وأقواها ما أوردته وكالة «بلومبرج» من أن الفاتيكان أكد على أنه يتوجب على البنوك الغربية النظر بتمعن في قواعد المالية الإسلامية، من أجل العمل على استعادة ثقة عملائها في خضم هذه الأزمة العالمية، ومع هذا الزخم العالمي الذي جعل الصيرفة الإسلامية في قلب الحدث. وشكّل ذلك فرصة ذهبية لها للتعريف بأصولها ومبادئها وتقديم نموذج عملي للعالم لتطبيقه والمسارعة لاستغلال الفرصة في التوسع والانتشار وأخذ مواقع لها في الأسواق التي كانت مغلقة أمامها ردحا من الزمن وفُتحت بسبب هذا الأزمة والسعي لاستغلال هذا الاحتفاء العالمي بها في كسب اعتراف المؤسسات التنظيمية العالمية بمبادئها ومراعاة خصوصيتها عند سَنّ أي معايير أو قوانين لتنظيم الصناعة المالية مثل لجنة «بازل» أو هيئة المعايير المحاسبية الدولية.

إلا أنني أقول وبكل أسف وحسرة إن المؤسسات المالية الإسلامية والقائمين على هذه الصناعة لم يحسنوا التعامل مع هذه الفرصة، شأنها شأن الكثير من الفرص الضائعة التي لم يحسنوا استغلالها، لأنهم لم يكونوا مستعدين للعمل معا بعيدا عن أنانيتهم المفرطة ومصالحهم الضيقة، حيث لا تمتلك صناعة الصيرفة الإسلامية اليوم نموذجا واحدا يمكن تقديمه للعالم، فما زالت الصناعة دون معايير شرعية ومحاسبية موحدة. كما أن الخلافات الفقهية بين الهيئات الشرعية التي ترفض العمل المشترك تكاد تطيح بمكاسب هذه الصناعة حيث يرفض العديد من أعضاء الهيئات الشرعية فكرة وجود هيئات شرعية عليا للتقليل من الخلافات الناشئة عن تعدد الهيئات الشرعية، ومع سعي بعض القائمين على هذه الصناعة لتوحيد الجهود عبر إيجاد بعض المؤسسات المهنية الخاصة بهذه الصناعة كالمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ومجلس الخدمات المالية الإسلامية، فإن هذه المؤسسات تعاني من ضعف الدعم المادي حيث تقوم على التبرعات وضعف الدعم المعنوي إذ أن الكثير من المؤسسات المالية الإسلامية لا يعترف بما يصدر عنها ولا يعمل به مما قلل من فعاليتها.

ومع كل ما سبق فإنني أرى أن الفرصة ما زالت متاحة أمام صناعة الصيرفة الإسلامية لتوحيد جهودها وتغليب المصالح العامة للصناعة على المصالح الخاصة في سبيل الاستفادة من هذه الأزمة لنشر مبادئها وتثبيت الاعتراف بها من قِبل المؤسسات الدولية مع التوسع والانتشار في مختلف الأسواق المتاحة أمامها اليوم قبل أن تقل حدة الأزمة فيقل الاحتفاء بها. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]