الصيرفة الإسلامية وانحناءة السنابل

لاحم الناصر

TT

هل رأيتم كيف تستقبل بيادر القمح الرياح العاتية، حيث تنحني السنابل في حركات متموجة تميل مع الريح حيث مالت، يساعدها في ذلك مرونة سيقانها مع قوة جذورها؛ فتراها، وقد هدأت الريح، عادت لانتصابها، واقفة بعزة وشموخ، ما زالت تحمل القمح، دون أن تفقد منه سوى الجزء اليسير. وهنا أجد تشابها كبيرا بين تعامل السنابل مع الرياح، وبين تعامل الصيرفة الإسلامية مع رياح الأزمة المالية العاتية التي ضربت الاقتصاد العالمي، ومنه صناعة الصيرفة الإسلامية، فقد رأينا كيف أطاحت رياح هذه الأزمة بالكثير من المؤسسات المالية التقليدية العريقة، كأنها أعجاز نخل خاوية، وبعضها ما زال يصارع من أجل البقاء حتى اليوم. وفي فترة ماضية، ومع اشتداد الأزمة المالية العالمية، كثر الحديث عن مدى صلابة صناعة الصيرفة الإسلامية، وقدرتها على موجهتها، وكثر الهمز واللمز في قناتها، وأنها لن تصمد كثيرا، خصوصا إذا امتدت الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي الذي تقوم عليه أصول هذه الصناعة. وظهرت التقارير التي تتحدث عن ذلك، التي رأت في تباطؤ نموها، خصوصا في جانب الصكوك وما تعرضت له بعض المصارف الإسلامية من صعوبات وانخفاض في أرباحها، ذريعة. لذلك، وفي هذه الظروف الحالكة، ورغم هذا التشاؤم، إلا أنني كنت على يقين أن الصيرفة الإسلامية ستخرج من هذه الأزمة بأقل الخسائر، وأنها ستعود للنمو على أقصى تقدير في منتصف العام الحالي، وهو ما بينته في الكثير من مقالاتي وحواراتي الإعلامية حول الأزمة. واستندت في ذلك إلى العديد من المعطيات، منها أن جميع المؤسسات المالية الإسلامية لم تتعاط مع سبب الأزمة المالية، وهي الأصول المسمومة. وبالتالي، فهي في منأى عن الخسائر المباشرة، إضافة إلى توافر السيولة الجيدة لدى معظم المصارف الإسلامية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه السيولة إما أن تكون بدون تكلفة، أي في صورة حسابات جارية، أو أنها في صورة عقود مضاربة، بحيث تتحمل المخاطر جنبا إلى جنب مع المصرف، مع ما يتمتع به عملاء هذه المصارف من تاريخ مشرف في الوقوف مع مصارفهم حين الأزمات التي أثبتتها أزمات سابقة. إذا أضفنا إلى ذلك أن الكثير من أصول الصيرفة الإسلامية توجد في منطقة تتمتع بفائض مالي، ولا تعاني من شح السيولة، وهي منطقة الخليج، ومن هنا أجد أن ثقتي في قوة هذه الصناعة وإيماني بعودتها إلى النمو أمر منطقي جدا، إلا أن الصيرفة الإسلامية ـ كعادتها ـ فاجأت الجميع بسرعة تعافيها، وعودتها إلى النمو مرة أخرى، خصوصا في منطقة الخليج، حيث أظهرت نتائج المصارف الإسلامية الكبرى في الربع الأول من هذا العام نموا في الأرباح والأصول، في حين حققت أسعارها في البورصة نموا فاق 73 في المائة ،وفقا لتصريح نجاة السويدي رئيسة مجلس إدارة «الشركة العربية للاستثمار». كما حققت مؤشرات الأسواق العالمية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية أداء أفضل من المؤشرات التقليدية، وهذا ما أظهره تقرير مؤشرات ستاندرد بورز لشهر أبريل (نيسان) من هذا العام. وفي سوق الصكوك التي عانت من انخفاض شديد في إصداراتها في عام 2008م فاق 54 في المائة عن عام 2007م نجد أنها بدأت تعاود نشاطها من جديد، حيث قامت الحكومة الإندونيسية ببيع صكوك بقيمة 650 مليون دولار بعائد استرشادي 8.8، بعد أن خفضته الحكومة من 9.25 نتيجة الإقبال الشديد من المستثمرين على الإصدار، حيث تجاوزت طلبات الاكتتاب حوالي 4 مليارات دولار، وفقا لمصادر آسيوية، وهو أول إصدار مقوم بالدولار يصدر هذا العام، وفقا لطومسون رويتر. كما استطاعت شركة «دار الأركان»، وهي شركة عقارية تعمل في المملكة العربية السعودية من إقفال إصدارها من الصكوك المحلية البالغ 750 مليون ريال (200 مليون دولار)، وهذا خلاف ما توقعه البعض من أن سوق الصكوك في دول الخليج لن تعاود نشاطها إلا في بداية عام 2010م. كما يعتزم البنك الإسلامي للتنمية إصدار صكوك بقيمة مليار دولار هذا العام، ويتوقع أن يصل حجم إصدارات الصكوك بنهاية هذا العام حوالي 10 مليار دولار.

أما بالنسبة لنمو الصناعة ككل، فما زالت ـ رغم الأزمة ـ تنمو بمعدل سنوي ما بين 15 في المائة إلى 20 في المائة، وفقا لتصريح الرئيس التنفيذي لبنك صادق الذراع الإسلامي لبنك لستاندرد شارتر. كما أنها بصدد التوسع جغرافيا، حيث فتحت الأزمة أمامها أسواقا جديدة، مثل فرنسا التي تعتزم «دلة البركة» افتتاح أول بنك إسلامي فيها هذا العام، كما سيتم فيها ـ ولأول مرة ـ إصدار صكوك إسلامية بقيمة 1.3 مليار يورو هذا العام، وفقا لمؤسسة «باريس يوروبليس» .

إن الصيرفة الإسلامية بتخطيها لهذه الأزمة، وعودتها إلى النمو تثبيت للجميع أنها هي مستقبل الصناعة المالية. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]