فرنسا تبدأ رسميا في استقبال البنوك الإسلامية

وزيرة الاقتصاد الفرنسية لـ «الشرق الأوسط» : تقدم مصرفان لطلب رخص فروع ونأمل أن يتقدم المزيد

TT

كشفت مسؤولة اقتصادية رفيعة في الحكومة الفرنسية، لـ«الشرق الأوسط» أن مصرفين إسلاميين تقدما بطلب ترخيص لإقامة فرعين لهما في سوق الصيرفة الفرنسية، دون أن تفصح عن اسميهما، مبدية رغبة حكومتها في أن يتقدم المزيد من البنوك الإسلامية لفتح أفرع لها في المدن الفرنسية. وبينت كريستين لاغارد وزيرة الاقتصاد والمال والعمل الفرنسية، أن بلادها تملك القدرة على استضافة وجذب رؤوس أموال تبحث عن التوظيف وفق المفاهيم المالية الإسلامية، مشيرة إلى المساعي المستمرة في تشجيع وتطوير الصناعة المالية الإسلامية في فرنسا. وأكدت الوزيرة الفرنسية في حديثها إلى «الشرق الأوسط»، خلال زيارتها الأخيرة إلى العاصمة السعودية الرياض، حرص بلادها على الاستثمار في صناعة الصيرفة الإسلامية، والسعي لمنافسة العاصمة البريطانية لندن بأن تكون باريس هي أيضا مركزا للتمويل الإسلامي.

وعلى الرغم من تأخر فرنسا عن كثير من الدول في استقطاب صناعة الصيرفة الإسلامية، إلا أنها أصبحت مهيأة لإطلاق الأدوات المالية الإسلامية، وأصبح بمقدورها أيضا الترويج للاستثمار في المعاملات والمنتجات الإسلامية.

ويأتي ذلك بعد أن أعلن أكثر من مسؤول فرنسي استعداد بلاده لاستضافة العمليات المالية الإسلامية، حيث اتخذت الحكومة الفرنسية جملة من الإجراءات لتهيئة وتطويع القوانين التي من شأنها تسهيل التعامل بالأدوات الإسلامية، ومراجعة قوانين وأحكام القطاع المصرفي، لجعله أكثر استعدادا لاستقبال البنى المصرفية التي تقدم الخدمات المالية الإسلامية المتنوعة.

ولم تكن الأدوات المالية والمصرفية الإسلامية في السوق الفرنسي في أي وقت مضى بالقوة التي هي عليها الآن، على الرغم من أن أكبر البنوك الفرنسية قد طورت سابقا نشاطات مصرفية تتواكب مع أحكام الشريعة الإسلامية في منطقة الخليج وبعض المناطق التي تتعامل بالأنظمة المصرفية الإسلامية، وذلك لأن البنوك الفرنسية لم تستشعر أهمية المنتجات المالية الإسلامية في فرنسا نفسها قبل أن تلقي الأزمة المالية بظلالها على القطاعات المصرفية، خصوصا في أوروبا، ولكن الحاجة باتت ملحة في الوقت الراهن للتعامل بالمنتجات الإسلامية، استجابة لطلب السوق هذا النوع من الصناعة المالية، بعد أن فرضت الأزمة المالية العالمية البحث عن حلول أخرى ومنتجات مالية أكثر أمانا. وبحسب عاملين في القطاع المصرفي الإسلامي، فإن فرنسا تمتلك الإمكانيات الكافية لاجتذاب وخدمة الاستثمارات الإسلامية، التي تقدر بنحو 680 مليار دولار حول العالم، متوقعين أن تشهد الأشهر القليلة المقبلة إقبالا من المصارف الإسلامية لإقامة أفرع لها في فرنسا، يدفعها على ذلك فرص الاستثمار في البلد الذي حقق المرتبة الثانية عالميا العام الماضي في استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة بعد أميركا، إلى جانب احتضانها نحو 6 ملايين مسلم. وكانت لتصريحات كريستين لاغارد حول الانتهاء من تجهيز البنية التحتية لاستقبال المصرفية الإسلامية في فرنسا ردود أفعال كبيرة.

وقال لـ «الشرق الأوسط» صالح كامل رئيس المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، في وقت سابق «إن السماح للمصرفية الإسلامية لدخول الأراضي الفرنسية يعتبر مكسبا كبيرا، وفي صالح الاقتصاد الإسلامي، مشيرا إلى أهمية فرنسا، لكونها بلدا رائدا للعلمانية في العالم».

وأوضح صالح كامل أن «دخول المصرفية الإسلامية إلى فرنسا جاء بعد محاولات كبيرة بذلوها رواد الصناعة قبل عشرة أعوام، عندما تقدمنا كمجموعة للبركة المصرفية لإنشاء فرع هناك، إلا أنه قوبل بالرفض في حينه»، مؤكدا أن الأزمة المالية العالمية الحالية أسهمت في تذليل الصعاب أمام دخول المصرفية الإسلامية في كثير من الدول.

وأضاف كامل قائلا «إننا كرواد في الصناعة المالية الإسلامية نرحب بهذه الخطوة الجريئة، على اعتبار الثقل الثقافي الكبير الذي تتميز به فرنسا عن بقية دول أوروبا، وله تأثير على دول محيطة فيها».

وأكدت كريستين لاغارد وزيرة الاقتصاد والمال الفرنسية لـ «الشرق الأوسط» في وقت سابق، أن عملية مراجعة القوانين المالية الفرنسية من أجل تسهيل استقبال البنى المصرفية التي تقدم الخدمات المالية الإسلامية قد تم الانتهاء منها، وأن الأرضية أصبحت جاهزة للبدء في استقبال هذه البنى، بشرط أن يكون أداؤها متوافقا مع القوانين الفرنسية المرعية، ومع القوانين الإسلامية.

وتأمل فرنسا أن تدخل سريعا جدا ميدان التسابق على اجتذاب رؤوس الأموال الخليجية والعربية، عن طريق اللحاق بركب بريطانيا وألمانيا ولوكسمبورغ، والحصول على حصة من كتلة مالية إسلامية تبحث عن الاستثمار، وتقدر بـنحو 600 مليار دولار إلى 700 مليار دولار. واعتبر الدكتور عز الدين خوجة الأمين العام للمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، هذا الحدث محطة تاريخية هامة في فرنسا التي يزيد عدد المسلمين فيها عن خمسة ملايين نسمة. ويأتي هذا الإنجاز نتيجة حراك واسع بدأ في يونيو (حزيران) 2007 حينما طلب الرئيس الفرنسي ساركوزي من وزيرته كريستين لاغارد تقديم خطة عمل لتعزيز جاذبية سوق باريس المالية.

وبين خوجة أن الوزيرة الفرنسية أنشأت في 5 يوليو (تموز) من نفس العام المجلس الأعلى لمكانة باريس المالية برئاستها، يضم عددا من الخبراء والمتخصصين لوضع هذه الخطة التي أصبح فيها موضوع تطوير التمويل الإسلامي من عناصرها الأساسية، وأحد أولوياتها. وتابع خوجة، الذي كان يتحدث إلى «الشرق الأوسط» في وقت سابق، أنه في أوج الأزمة المالية العالمية، حيث كان العالم يبحث عن الحلول والمعالجات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام المالي العالمي، صدر في شهر ديسمبر (كانون الثاني) 2008 تقرير هام عن معهد يوروبلاس المالي بعنوان «التحديات والفرص المتاحة لتطوير التمويل الإسلامي في سوق باريس المالي»، وهو تقرير بين فيه أن فرنسا قادرة على أن تصبح مركزا ماليا عالميا في مجال التمويل الإسلامي، وأن التقرير قدم عشرة مقترحات محددة تمكن فرنسا من جذب مليار يورو من المدخرات.

وأضاف الأمين العام للمجلس أن التقرير كان مساعدا لأعمال اللجنة المتخصصة المكونة لتطوير سوق باريس المالية، التي أدت أعمالها إلى صدور القانون المنظم لبعض المنتجات المصرفية الإسلامية بتاريخ 25 فبراير (شباط) 2009 وهي المرابحة والصكوك الإسلامية.

وبين الدكتور عز الدين أن هذه الأحداث المتلاحقة تحمل في طياتها عناصر إيجابية للصناعة المالية الإسلامية، ولكنها تحمل في نفس الوقت عددا من المخاطر التي يجب التنبه إليها. كما أن هذه الأحداث ـ والحديث للدكتور خوجة ـ تتضمن عددا من المحاذير التي قد تؤثر سلبا على الصناعة، وتستوجب دراسة أبعادها ونتائجها بكل دقة، حتى لا يكون هذا التوسع غير منضبط، أو يتخذ أشكالا صورية أو استغلالية، أو يسهم في تفريغ العمل المصرفي من مضمونه وهويته وخصائصه المميزة، وهذا الحذر يجب أن يلازمنا في كل توسع يشمل أي منتج من المنتجات المالية، وأي مؤسسة من المؤسسات الجديدة التي تقدم خدمات مالية إسلامية، وأي دولة من الدول التي تسعى لاحتضان العمل المصرفي الإسلامي، والحصول على موقع القيادة كمركز مالي إسلامي عالمي. وقال الدكتور خوجة «إن الإيجابيات وعناصر القبول والتفاؤل للتوجه الفرنسي كثيرة، منها: المساهمة في خدمة ملايين المسلمين المقيمين في فرنسا، وتمكينهم من التعامل في منتجات مالية لا تتعارض مع معتقداتهم ومبادئهم، وتقديم شريحة جديدة من المنتجات الأخلاقية التي تندرج فيما يعرف بالاستثمار والتمويل المسؤول، وذلك إلى شريحة جديدة من المتعاملين، سواء من المسلمين، أو المسيحيين، أو غيرهم ممن يبحثون عن هذا النوع من التعامل».كما تتضمن الإيجابيات تمكين المؤسسات المالية الفرنسية من إزالة حالة التناقض القائمة لديها حاليا، حيث إن عددا منها فتح فروعا ونوافذ إسلامية لتقديم الخدمات والمنتجات المالية الإسلامية خارج فرنسا، بينما لم يكن يستطيع ذلك داخلها، ومن هذه المؤسسات «بنك باريبا»، و«كاليون»، و«سوسيتي جنرال»، وتلبية الرغبات القائمة لعدد من المؤسسات المالية الإسلامية التي سعت مبكرا إلى الحصول على ترخيص لها في فرنسا. وقد ذكرت مصادر فرنسية أن هناك ما لا يقل عن ثلاث مؤسسات خليجية سبق لها تقديم طلب في هذا الخصوص. وقد حذر الأمين العام للمجلس، في الوقت نفسه، من بعض التحديات التي يجب التنبه إليها، والعمل على تقليصها ومعالجتها، حتى تتحقق الفائدة كاملة من عملية فتح الأبواب لاحتضان واستضافة المؤسسات المالية الإسلامية.

وتتضمن هذه التحديات توسيع التسهيلات القانونية التي تقدمها الجهات المسؤولة للصيرفة الإسلامية، بما يمكنها من تقديم خدمات التجزئة المصرفية، وتمويل الأفراد، وتقديم حسابات الودائع الاستثمارية، وعدم الاقتصار على الأنشطة الاستثمارية.

كما يجب وضع إطار مالي وتنظيمي متكامل للتمويل الإسلامي، وتأسيس المؤسسات المالية الإسلامية، وتقديم الخدمات المالية الإسلامية، ومراعاة طبيعة الأنشطة والخدمات المالية الإسلامية، والأسس والضوابط والتعبيرات التي تحكمها عند إصدار القوانين المتعلقة بها، والعمل على استشارة الجهات ذات الخبرة والاختصاص في المعاملات الإسلامية قبل إصدار أي قرارات أو أنظمة أو تشريعات، وعدم حصر استعمال الأدوات والصيغ والمنتجات المالية الإسلامية فقط لاستقطاب واجتذاب رؤوس الأموال الإسلامية، والعمل على دمج ملايين المسلمين الراغبين في الحصول على خدمات مصرفية تتفق مع مبادئهم الدينية ضمن نسيج المجتمع، وتمكينهم من تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي.