عصر الصكوك

لاحم الناصر

TT

تعتبر سوق الصكوك من أكثر قطاعات صناعة الصيرفة الإسلامية تضررا، بسبب الأزمة المالية العالمية، حيث تسببت الأزمة في عكس اتجاه النمو القوي لهذه الصناعة، الذي تحقق في عام 2007م، الذي بلغ في حينه 73 في المائة عن عام 2006، إلى انخفاض فتراجعت الإصدارات من حيث الكمية والحجم في عام 2008 م، بنسبة بلغت 56 في المائة عن مثيلاتها في عام 2007. ويعود السبب في ذلك لعدد من العوامل، منها حالة الهلع والخوف التي أصابت الصناعة المالية في جميع أنحاء العالم، نتيجة الأزمة المالية العالمية، وما نتج عنها من اضطراب في الأسواق، وإفلاس عدد من أهم وأكبر البيوت المالية العالمية، مما جعل التنبؤ بحدود الأزمة وتداعياتها مستحيلا، فأصاب هذا الخوف والهلع السوق الائتمانية بالشلل التام، نتيجة لرغبة المؤسسات المالية في الاحتفاظ بالسيولة، تحسبا لأي مفاجآت. وقد امتد هذا الشلل لسوق الصكوك، حيث إن حوالي 80 في المائة من إصدارات الصكوك حول العالم مملوكة لمؤسسات مالية عالمية. ومنها الخوف من امتداد الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي، ومن ثم تحولها إلى حالة ركود اقتصادي في أحسن الأحوال، مما سينعكس على مكونات هذه الصكوك، حيث إن الصكوك تعتمد في هيكلها على الأصول المدرة للدخل، سواء كانت هذه الأصول أعيانا أو منافع، مع اعتماد غالبية الصكوك المصدرة على الأصول العقارية خصوصا في إمارة دبي، التي كانت المحرك الرئيسي للطفرة الحاصلة في إصدارات الصكوك في عام 2007. إذ كونت إصداراتها 70 في المائة من إجمالي إصدارات منطقة الخليج، وبفضلها استطاعت منطقة الخليج ولأول مرة تجاوز ماليزيا في حجم الإصدارات، التي بلغت في حينه 13.2 مليار دولار، في حين لم يتجاوز حجم إصدارات ماليزيا 9.7 مليار دولار، مما مكن منطقة الخليج من اقتطاع حصة من سوق الصكوك، بلغت حوالي 55 في المائة من سوق الصكوك حول العالم. ومن ثم فإنه من الطبيعي أن أي عوامل اقتصادية تؤثر سلبا على قدرة دبي على إصدار الصكوك، سينعكس على سوق الصكوك العالمي إجمالا، وهو ما حدث بالفعل.وهناك عامل آخر أثر على سوق الصكوك، لا علاقة له بالأزمة المالية العالمية، وكان سابقا لها، هو ما ظهر على السطح من خلاف فقهي حول شرعية بعض هياكل صكوك المضاربة والمشاركة المستخدمة، التي كانت صحيفة «الشرق الأوسط» أول من أشار إليه. وقد نبهت في حينه لخطر هذا الخلاف على سوق الصكوك، بعد ظهور بوادره بمقال لي تحت عنوان (الخلاف الفقهي يعصف بالصكوك)، وقد خالفتني بعض مؤسسات التصنيف الائتماني الرأي في إمكانية تأثير الخلاف الفقهي على سوق الصكوك. إلا أن هذه المؤسسات عادت واعترفت في تقاريرها اللاحقة بتأثير هذا الخلاف على سوق الصكوك.

ومع ما يمر به سوق الصكوك اليوم من انخفاض في النمو، نتيجة للعوامل التي سبق ذكرها، فإنني أرى أن مستقبل الصكوك الإسلامية أفضل من حاضرها، وأنها مهيأة لطفرة غير مسبوقة للأسباب التالية:

أولا: تركز السيولة في منطقة الخليج، التي تتميز بحساسية عالية من المستثمرين تجاه الأدوات الاستثمارية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، حيث يفضل 90 في المائة منهم التعامل في الأدوات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، حتى ولو كان العائد أقل، وبالتالي فمن يرغب الاستفادة من هذه السيولة عليه استخدام أدوات تتطابق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومن أهمها الصكوك. ومن هنا نجد انفتاح الكثير من الدول على التشريع للصكوك للاستفادة من هذه السيولة، مثل فرنسا وبريطانيا وسنغافورة وهونج كونج.

ثانيا: تعتزم العديد من دول الخليج تنفيذ العديد من مشاريع البنى التحتية الضخمة، بهدف مساعدة اقتصادها على مواجهة الأزمة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ومع توقع وجود عجز في موازنات هذه الدول نتيجة انخفاض سعر البترول، فإنني أتوقع أن تلجأ هذه الدول إلى إصدار الصكوك لتمويل تنفيذ جزء من هذه المشاريع، ومن ثم فإن ذلك يستلزم إيجاد التشريعات المناسبة لإصدار الصكوك والأسواق المنظمة لتداولها. وقد ظهرت بوادر ذلك جلية في المملكة العربية السعودية، حيث صرح محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي في أكثر من مناسبة عن أهمية الصكوك، وكذلك في سعي هيئة السوق المالية لتسهيل تداول الصكوك عبر السوق المالية، وهو ما يهيئ لدخول لاعبين جدد في سوق الصكوك. ثالثا: توجه الكثير من الشركات، خصوصا في منطقة الخليج، لسوق الصكوك بديلا عن التمويل المباشر من المصارف، نتيجة لارتفاع كلفة التمويل المصرفي، وزيادة الاشتراطات الائتمانية بسبب الأزمة المالية العالمية، مما ضيق هامش كلفة التمويل المرتفعة بين الصكوك والتمويل المصرفي المباشر عما كان في السابق، حيث كانت الشكوى من ارتفاع تكاليف إصدار الصكوك نتيجة لهياكلها المعقدة. رابعا: انحسار الخلاف الفقهي حول هياكل الصكوك، نتيجة لإصدار المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بيانا يوضح فيه محل الخلاف، والضوابط الشرعية لإصدار الصكوك محل الخلاف.

خامسا: انتشار المؤسسات المالية الإسلامية، التي ترغب في الاستثمارات الإسلامية البديلة ومتدنية المخاطر، مثل شركات التأمين التكافلي وشركات وبنوك الاستثمار وصناديق الاستثمار.

سادسا: رغبة الكثير من المستثمرين الخليجيين ذوي الثروات في الاستثمارات الإسلامية البديلة ذات المخاطر المتدنية، مثل الصكوك نتيجة للمخاطر العالية للاستثمار في أسواق الأسهم المحلية والعالمية، نتيجة للأزمة المالية مع حالة الترقب التي تعاني منها أسواق العقار المحلية، وانهيار أسواق العقار العالمية.

ومن هنا يحق لنا تسمية هذا العصر بعصر الصكوك الإسلامية. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]