خبراء غربيون يبرزون عيوب الرأسمالية في ندوة البركة

طرح مواضيع منوعة أهمها تأمين الضمان والدين في الدورة الثلاثين للندوة

إحدى جلسات الندوة ويبدو من اليمين أحمد نصار ود.عبد الستار أبو غدة ومحمود حسونة والشيخ عبد الله بن منيع والدكتور أحمد محيي الدين («الشرق الأوسط»)
TT

كشف خبراء غربيون في صناعة المصرفية عيوب الرأسمالية، مشيرين إلى أن العيوب تكمن في الفلسفة التي قامت عليها الرأسمالية، وذلك خلال ندوة البركة في دورتها الثلاثين، التي أقيمت مؤخراً في مدينة جدة غرب السعودية.

وذكر الدكتور توبي بيرش الخبير الأجنبي الذي شارك في الندوة، أن أجمل ما في الأزمة الاقتصادية العالمية إبرازها لحقائق قبيحة، وعلى رأس هذه الحقائق التي كشفتها الأزمة اهتراء الفلسفة التي تأسس عليها النظام المالي العالمي، وهي الفلسفة التي تضع أحمالها على نمو المستقبل وتوسع الاقتصاد توسعا مزورا من خلال الاقتراض.

وشهدت الندوة عرض مواضيع متنوعة، أبرزها موضوع التأمين على الديون والمشتقات التي كانت لها دور كبير في إحداث الأزمة المالية العالمية.

واستعرض بيرش الذي شارك كخبير أجنبي في الندوة في بحثه أسباب قبوله الدعوة في المشاركة لأول مرة أمام جمع من العلماء المسلمين، وأن الأسباب تعود إلى مايو (أيار) 2007 عندما نشر كتابه «الانهيار الأخير» إدمان الديون وتشوه الاقتصاد العالمي، والتوقعات التي كانت غير متفائلة.

وقال بيرش، إن الصورة كانت بالنسبة له متشائمة في البداية لكنها تغيرت في النهاية، وأن ذلك التحول الكبير في مرئياته جراء أمرين، أولهما النظام المالي الإسلامي، والآخر هو وجود بنية مالية خالية من الفائدة يتم التعامل بها واستخدامها لأكثر من قرن في الجزيرة التي ينتمي إليها، وهي جيورنسي أو ما يعرف بتجربة جيورنسي.

وأشار توبي بيرش إلى أن برامج الإنقاذ الجاري تطبيقها «تخصيص مبالغ مالية لإنقاذ المؤسسات المتعثرة من الانهيار» لن يؤدي إلا إلى ذهاب المستهلكين بالديون لعقود عديدة قادمة، مقدما شرحا توضيحيا حول المشتقات متضمنة الخيارات، العقود الآجلة، عقود الفروقات، ومقايضة تعسر الديون. مبيناً رأيه حول ما يتعلق بهذه الأنماط من إشكاليات وانعكاسات أخذت في التشكل وأدت في نهاية المطاف للأزمة المالية العالمية.

وأوضح بيرش في بحثه أن المشتقات والرافعات المالية لعبت دورا كبيرا في تسريع وتعقيد وترابط أسعار الأصول، وبالتالي فاقمت من اهتزاز الأسواق المالية والاقتصاد الحقيقي.

وأشار بيرش إلى أن القلق من موضوع المشتقات له ثلاثة أبعاد، أولها أنه حدث نمو هائل في استخدامها، فقد نما سوقها عام 2004 بنسبة 123 في المائة، مما فتح المجال للتعامل بمبلغ يصل إلى 8.4 ترليون دولار في مجال أدوات التأمين هذه، وفي عام 2005 بلغت النسبة 105 في المائة لتبلغ القيمة الاسمية نحو 17.3 ترليون دولار، وهو ما يتجاوز كل مديونيات الشركات القائمة في العالم. وأضاف أن إجمالي سوق المشتقات لجميع القطاعات وصل إلى رقم مذهل وهو 289 تريليون دولار.

مصدر القلق الثاني الذي ذكره توبي بيرش أن هذه العقود يجري التعامل بها على الكاونتر بين البنوك، ولا تمر عبر طريقة تبادلية تتيح للمشرعين متابعة نشاطاتها، في حين يتمحور الجانب الثالث الذي تعرض له بيرش في بحثه في أن النظام المستندي الذي يثبت تلك المعاملات قديم وبال، وقد يحتاج أحيانا لأسبوعين لتسوية بعض المعاملات، ورغم ما تم من إصلاح للنظام عام 2005 إلا أن كثيرا من الاختلالات لا تزال قائمة في هذا النظام. كما تطرق بيرش لصناديق التحوط وآليات عملها، وذكر أن بعضها ظل حكرا على الأثرياء، وعضويتها غالبا تكون محصورة ولا تتجاوز في بعض الصناديق الـ 100 شخص، وفي بعض الأحيان تكون عضويتها عن طريق الدعوة فقط، ويضيف أن القوانين أتاحت لهذه الصناديق العمل بأقل قدر من القيود قياسا بنظرائها الآخرين مثل الصناديق المشتركة.

وأضاف بيرش أن كثيراً من صناديق التحوط في حد ذاتها كانت لها إسهامات إيجابية ومثلت فرصا استثمارية هائلة لعدة سنوات، وهناك بعض مديري تلك الصناديق ممن يتمتعون بسعة الأفق وحسن البصيرة، واصفا هؤلاء بأنهم قد استحقوا الثراء، نظرا لما قدموه لعملائهم من خدمات في أوقات الرخاء والشدة. وقال إن هناك من مديري هذه الصناديق من ذوي القدرات المتواضعة سيما من حلوا حديثا على هذا المجال.

وذكر توبي بيرش أن أجمل ما في الأزمة الاقتصادية العالمية إبرازها لحقائق قبيحة، وعلى رأس هذه الحقائق التي كشفتها الأزمة اهتراء الفلسفة التي تأسس عليها النظام المالي العالمي، وهي الفلسفة التي تضع أحمالها على نمو المستقبل وتوسع الاقتصاد توسعا مزورا من خلال الاقتراض. كما تطرق لبعض الأرقام في هذا الشأن، حيث أشار إلى أنه في عام 1970م كان سوق الائتمان يمثل 1.3 مرة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وتحول هذا الرقم الآن ليصبح 3.7 مرة. مضيفا أنه على ما يبدو أن الكثير مما يوصف بأنه نمو في العصر الحديث هو عبارة عن تراكم ديون، ويسمى بيرش ذلك بـ«الرأسمالية السرية القذرة» وفقا للتسمية التي أطلقها عليها بن فونيل، وهو مسؤول بأحد أكبر صناديق التحوط في لندن.

وأضاف أن القدرة على التحوط فاقمت المخاطر المنتظمة وتحمل المخاطر المعتمدة على النماذج التي اعترف مصمموها من البداية بعيوبها. مبينا أن الرقابة والتنظيم سيعزّزان من عدم استقرار السوق وتجاهل أساس المشكلة التي هي تراكم الائتمان الخاص، ومع الفوائد المترتبة عليه.

كما أن الدعومات Bail-outs ـ والحديث لبيرش ـ ستجعل مديونية المستهلكين مستمرة لعدة عقود زمنية قادمة وتزيد من أعداد البنوك بصورة سيئة، إلى جانب أن الديون والمشتقات قد سحبت رأس المال من النشاطات الحقيقية والنافعة ووجهته إلى أدوات خفية مدمرة. مؤكدا أن المبادئ الإسلامية هي الحل الوحيد الذي من شأنه مقاومة الضعف البشري وسعيه لجلب وتوليد المال من دون بذل جهد ومشقة. وخلص بيرش في ورقته التي قدمها إلى أن جوهر مشكلة الائتمان يتمثل في طبيعة الائتمان نفسه، حيث إن الإنتاج الشامل للنقود من النقود قد أدى إلى تآكل القوة الشرائية لدى المستهلكين. ويضيف أن الإنسان يكون بذلك هو الكائن الوحيد الذي يقوم بتبديد إرث الأجيال القادمة، بينما تجهد غيره من الكائنات لعمل أي شيء لصالح ذرياتها. مؤكدا أن الحلول الإسلامية هي الوسيلة الوحيدة القادرة على مخاطبة أصل المشكلة من خلال معالجتها للضعف البشري، ذلك الضعف الذي يدفع الإنسان لتخليق النقود من النقود من دون أن يبذل أي جهد يذكر مقابل ذلك.

كما شاركه في الجلسة أغناسيو دي لا تور المدير الأكاديمي في كلية «آي إي» لإدارة الأعمال، والمسؤول السابق في بنك «يو بي إس انفستمنت»، الذي قدم ورقة عمل عن «دور المشتقات في أزمة الائتمان».

وأكدت الورقة أن النمو غير المسبوق في المشتقات بكل أنواعها، وبصفة خاصة عمليات مقايضة تعسر الديون، وعمليات الروافع التي تتضمنها تلك المقايضات قد أسهمت بشكل كبير في نشر وتعميق أزمة الائتمان العالمية وفي تشكيل مجمل الصناعة المالية العالمية.

واقترح أغناسيو حلولا أساسية للمشكلة تتمثل في إنشاء بيوت مقاصة مركزية لتقليل المخاطر القائمة، وتغيير الأنظمة بحيث يصبح استخدام التحوط وسيلة للحد من المخاطر لا زيادتها، والعمل على معالجة مشكلة الرفع لدى مؤسسات التمويل من خلال معالجة نظام التعويض لديها، وتغيير الأنظمة الحاكمة في مؤسسات التصنيف الائتمانية وتطوير محاسبة المشتقات. وخلص الخبير الأسباني إلى تصوير مشهد الأزمة المالية العالمية بما يتناسب والطريقة التي عرضت بها مسبباتها، حيث قال: «لقد كشفنا في هذه الورقة كيف أن المشتقات قد أسهمت في ظهور المخاطر المؤسسية في الفترة ما بين 2001 – 2007 من دون وجود أي سياسة رد فعل وقائي للتصدي لهذه المخاطر النظامية البالغة الخطورة». وأضاف أنه لسوء الحظ فإن العلاقة بين المشتقات والسيولة أثبتت أنها ميتة كما هو العام 1930، وأن الخطر المنظم كان مدمجا في فئات العقود الرئيسية للمشتقات، مع التركيز بشكل خاص على مقايضة عقود الائتمان الافتراضية.

وكشف أغناسيو عن حقيقة مرة هي في أن كثيراً من أعضاء مجالس إدارة المؤسسات المالية أثبتوا جهلهم وعدم كفاءتهم للعمل كمديرين، حيث إنهم كانوا غير قادرين على فهم الرافعة المالية أو المخاطر الضمنية والكامنة وراء المشتقات، مشيرا إلى أحد البنوك السويسرية المعروفة الذي واجه صعوبات خطيرة جدا، مما دفع الحكومة لمساعدته، حيث إن البنك ليس لديه إلا عضو واحد في مجلس إدارته ذو خبرة في المشتقات.

كما شهدت الندوة مناقشته موضوع التطبيقات العملية للإجارة الموصوفة في الذمة قدمها كل من الدكتور عبد الستار أبو غدة رئيس الهيئة الشرعية لمجموعة البركة المصرفية والأمين العام، وأحمد محمد محمود نصار مدير مركز الرصد والتواصل المالي الإسلامي في المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وعقب عليها الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية.

وكان حضور الندوة على موعد مع موضوع «تأمين الضمان والدين»، الذي شارك في جلسته الدكتور علي محيي الدين القرة داغي أستاذ الفقه الإسلامي ورئيس عدد من البنوك الإسلامية في قطر، وعثمان الهادي إبراهيم العضو المنتدب لشركة شيكان للتأمين وإعادة التأمين المحدودة. وقدم القرة داغي إلى الموضوع بمقدمة أكد فيها أنه ما زالت بعض موضوعات التأمين تحتاج إلى مزيد من الدراسات والتأصيل والبحث على الرغم من كثرة الكتابات والبحوث فيه.

وتناول الشيخ القرة داغي تعريف التأمين والمراد به وتعريف الدين لغة واصطلاحاً وحكم التأمين على الدين وبيان الإشكالات المثارة حوله، ومدى إمكانية دفعها وبيان دواعي التأمين على الدين وكيفية التغطية وآلية عمل التأمين وطالبي تأمين الدين ونحو ذلك.

في المقابل تطرق عثمان الهادي إبراهيم في ورقته إلى تأمين الدين، وأنه لما كان نظام التجارة في هذا العصر يقتضي تسهيلات في البيع لتنشيط حركة التجارة وترغيب المشتري في الشراء، ومقابلة متطلبات التنافس في الأسواق، وتمكين أصحاب الدخل المحدود من شراء احتياجاتهم وكذلك تحريك المال المدخر في عملية الاقتصاد، أصبح الدين من ضروريات حركة التمويل للتنمية والمشروعات التجارية.

من جانب آخر أوضح محمود حسونة رئيس جلسات الندوة، أن فعاليات الندوة لهذا العام شهدت تميزا في المواضيع، وكذلك تفاعلا مع قبل الحضور الذين وصلوا إلى أكثر من 300 عالم وخبير شرعي ومصرفي من كافة دول العالم.

وأضاف حسونة أن الندوة قطعت مراحل كبيرة في ترسيخ المصرفية الإسلامية، وهي الهدية التي قدمها صالح كامل من أجل النهوض بالقطاع المصرفي الإسلامي، فضلا عن كون كثيرا من المنتجات التي طرحت في الأسواق المالية الإسلامية هي من ثمرات فتاوى ندوة البركة على مدى ثلاثين عاما.