الصيرفة الإسلامية والوفاء لأهل الوفاء

TT

كان الدافع لإنشاء المصارف الإسلامية في البداية شرعيا بحتا، حيث شعر بعض رجال الأعمال والمفكرين بأن عليهم واجبا شرعيا تجاه دينهم وأمتهم في إيجاد بديل مصرفي يستمد قواعده وأصول عمله من الشريعة الإسلامية، بحيث تهيمن على جميع أعماله. ويأتي ذلك من أجل توفير سبيل حلال للمجتمع المسلم للاستفادة مما يحققه النظام المصرفي من منافع بعيدا عن الحرج الشرعي. فلم يكن البحث عن الربح هو الباعث على الفكرة، بل إن حسابات الخسارة في ذلك الوقت كانت أقرب وذلك لعدة أمور منها جدة التجربة وحداثتها. فلم تكن هناك سابقة يمكن أن يبنى عليها، وبالتالي فلا يوجد نموذج عمل يمكن الاحتذاء به ولا منتجات يمكن بيعها. وبالتالي فالمشروع يخضع لمبدأ التجربة والخطأ للوصول للهدف.

ولا شك أن هذا الأمر لا ينسجم مع الصناعة المالية القائمة على الثقة والاستقرار، خصوصا إذا كانت التجربة تأتي في بيئة تنافسية شديدة قد ضربت فيها المصارف التقليدية بأطنابها واكتسبت مصداقية عالية. إلا أن التجربة نجحت واستطاعت المصارف الإسلامية الوقوف على قدميها، وذلك بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بدعم عملائها المؤمنين بمبادئها، الذين كانوا يرون في وجودها ونجاحها دليلا على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان. كما رأوا فيها مخرجا من الحرج الشرعي الناتج عن التعامل مع المصارف التقليدية، التي كان الكثير من المسلمين يتورعون عن التعامل معها، فلم يتوانوا في الوقوف معها في الأزمات التي مرت بها ولم تضعف ثقتهم فيها مع وجود الدواعي لذلك وصبروا على ما كانت تعاني منه هذه المصارف من سوء الخدمة وبطئها والتخلف التقني وافتقادها للكثير من المهنية والاحترافية في عملها، ورضا العملاء بتحمل مخاطر هذه المصارف جنبا إلى جنب مع مؤسسيها. حيث كانوا يودعون أموالهم في هذه المصارف على سبيل المضاربة التي لا تمنح العميل المودع أي ضمانات لاسترداد رأس ماله فضلا عن الربح في وقت كانت المصارف التقليدية تضمن لمودعيها رأس المال والفائدة.

فهل بادلت المصارف الإسلامية هذا الوفاء من عملائها بمثله بعد نجاحها، وتخطى عدد مؤسساتها 396 مؤسسة تنتشر في 75 دولة وتدير ما بين 800 مليار دولار إلى تريليون دولار، أم أنها قلبت لهم ظهر المجن، ورأت فيهم عائقا يقف أمام توسعها ونموها؟.

إن ما تعانيه الصيرفة الإسلامية اليوم من أزمة هوية وشكوك في مصداقيتها الشرعية نتيجة لتبعيتها للصيرفة التقليدية واقترابها منها بشكل معيب في بعض المنتجات التي غلبت على نشاطها، مثل التورق المنظم وبطاقات الائتمان القائمة على قلب الدين أو ذات الرسوم المرتفعة، وصكوك المشاركة التي يضمن المصدر شراءها بالسعر التاريخي، جعلت الأمور تختلط على الكثيرين. فلم يعودوا يفرقون بين الكثير من منتجات الطرفين سوى بالاسم، مما جعلها عرضة للنقد من قبل علماء الشريعة الإسلامية والمجامع الفقهية. وهو ما جلب عليها نقمة الكثير من عملائها المتعاملين معها بدافع شرعي بحت، بحثا عن الطمأنينة النفسية نتيجة للتعامل بالحلال، التي لم تعد توفرها الكثير من منتجات الصيرفة الإسلامية لهم اليوم. فلم يعد وجود ختم اعتماد الهيئة الشرعية كافيا في نظر الكثيرين منهم اليوم للاطمئنان إلى شرعية المنتج، حيث أصبح الشك في الشرعية هو سيد الموقف. ولا أدل على ذلك من كثرة الأسئلة التي ترد حول هذه المنتجات سواء في اللقاءات التلفزيونية أو المباشرة بين العملاء وأعضاء الهيئات الشرعية، ويكفيك حضور لقاء واحد ليتبين لك مدى القلق الذي يشعر به العملاء تجاه مشروعية هذه المنتجات.

ومن هنا يمكن لنا القول، إن الصيرفة الإسلامية قلبت ظهر المجن لعملائها الأوفياء، الذين يتعاملون معها على أساس المبدأ بعيدا عن حسابات الربح والخسارة، الذين كان لهم الفضل بعد الله في ظهورها ونجاحها لصالح عملاء المنطقة الرمادية، الذين لا يحركهم سوى معيار الكفاءة والربحية. ولا شك أن هذا سلوك خطير سيضر بهذه الصناعة على المدى البعيد حيث سيؤدي في النهاية إلى انتفاء سبب وجودها والداعي له وهو الالتزام الشرعي، ومن ثم ستفقد عملاءها الأوفياء، الذين يتعاملون معها على هذا الأساس، ولن تستطيع منافسة المصارف التقليدية في كسب عملاء المصالح بحكم قوة هذه المصارف ومهنيتها.

ومن هنا فإنني أدعو القائمين على المصارف الإسلامية إلى التنبه لذلك، قبل أن تفقد هذه المصارف البقية الباقية من هذه المصداقية، وذلك بالسعي لتحسين الجودة الشرعية في هذه المؤسسات بدءا من الفتوى والرقابة الشرعية وانتهاء بتوفير البنية التحتية، التي تكفل هذه الجودة من أنظمة وسياسات وإجراءات وتأهيل مهني، والعناية بالبحث والسعي لتطوير المنتجات الأصيلة لا البديلة، لا سيما وقد وفرت لها الأزمة المالية العالمية فرصة ذهبية لتحقيق ذلك، حيث اعترف العالم بجودة الأصول التي تقوم عليها هذه الصناعة والمعايير التي تحكمها. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية