محاكاة الصيرفة التقليدية ستدمر الصيرفة الإسلامية

لاحم الناصر

TT

عندما بدأت الأزمة المالية العالمية تضرب الأسواق والمؤسسات المالية العالمية تسببت في أمواج تسونامي أغرقت المرافئ المالية في العالم في بحر من الإفلاسات التي لم تسلم منها حتى الدول، تلفّت العالم حوله فدهش حيث رأى أن بعض الجزر الصغيرة في هذا المحيط المالي قد نجت من هذا المد التسونامي المدمر. وقد كانت هذه الجزر هي المؤسسات المالية التي تتوافق أعمالها مع الشريعة الإسلامية فتداعى الكثيرون من عقلاء العالم ومفكريه إلى الأخذ بالأصول التي تقوم عليها هذه المؤسسات المالية التي استطاعت أن تحميها من هذه الأزمة. إذ إن جميع المؤسسات المالية الإسلامية لم تكن تتاجر في سبب الأزمة وأساسها، وهي المشتقات المالية أو ما اصطلح على تسميتها «الأوراق المسمومة»، ونتيجة لهذه الإشادة العالمية بهذه الصناعة والأسس التي تقوم عليها طغت الحماسة على الكثيرين من أهل هذه الصناعة والمنظرين لها فدبجوا الخطب والمقالات في سقوط الرأسمالية وسيادة الصيرفة الإسلامية كبديل لها. لكن هؤلاء نسوا أن الصيرفة الإسلامية القائمة اليوم ما هي إلا محاكاة للصيرفة التقليدية في أدواتها وممارساتها حتى أنها لم تعد تملك الأساس النظري الذي قامت عليه وهو المشاركة في المخاطر، الذي وإن بقي يدرس نظريا إلا أنه غير موجود في الواقع العملي حيث تحولت الصيرفة الإسلامية إلى المداينات، فجل معاملاتها اليوم قائمة على التورق والمرابحات. إلا أن الصيرفة الإسلامية يبدو أنها لم تكتفِ ولن تكتفي من محاكاتها للصيرفة التقليدية في أدواتها إلا بعد أن تدمر ذاتها فها هي وسائل الإعلام تنقل لنا خبرا عن الاتحاد الدولي للمبادلات والمشتقات المالية مفاده أن اللمسات الأخيرة على اتفاق رئيسي يحدد المعايير العالمية للمشتقات المالية الإسلامية، وذلك بالتعاون مع السوق المالية الإسلامية في البحرين، توشك أن تتم. والحقيقة أن العاقل ليحار في هذا الأمر، فقبل أيام كانت الصيرفة الإسلامية تتباهى بأنها لم تتضرر بالأزمة المالية العالمية، وأن السبب في ذلك أنها لا تتعامل في المشتقات المالية لحرمتها، وأن هذا الأمر كان الدرع التي تقيها من الوقوع في الأزمة، ومن ثم فهي تدعو العالم للأخذ بأصولها حتى لا يقع في الأزمات مستقبلا، إلا أنها تسعى اليوم للاتفاق مع الاتحاد الدولي للمبادلات والمشتقات لوضع معايير عالمية للمشتقات المالية الإسلامية للدخول إلى سوق المشتقات. فكيف يمكن لنا أن نفسر هذا التناقض بين الخطاب والأفعال. إن ما يفسر هذا التناقض هو أن الصيرفة الإسلامية لم تكن بعد تملك أدواتها من المشتقات، وهو ما منعها من الوقوع في الأزمة، وبالتالي فضلت ركوب الموجة في ذم هذه الأدوات، وعزوا نجاحها في عدم الوقوع في الأزمة لعدم متاجرتها في هذه الأدوات، وهو أمر حقيقي، إلا أن السبب كما أسلفنا ليس العزوف عن دخول سوق المشتقات وإنما عدم جاهزية المنتجات، وفرق بين الأمرين.

ومع أنني أرى أنه لا بد للصيرفة الإسلامية من السعي لإيجاد منتجات تتوافق مع الشريعة الإسلامية لإدارة المخاطر التي قد تتعرض لها، والناشئة عن عوامل خارجية مثل تقلب سعر الصرف وسعر الفائدة، فإنني أشدد على أنها يجب أن تكون مقتصرة على هذا الغرض ولا يجوز بأي حال من الأحول أن تتحول إلى منتج يمكن المتاجرة به أو إيجاد أسواق له، وهذا الأمر منوط بالهيئات الشرعية التي تجيز مثل هذه المنتجات. حيث إنها يمكن أن تضع عليها قيودا تمنع من تحولها إلى سلع يمكن المتاجرة بها، وإنما وسائل تستخدم عند الحاجة لها، مع أن الصيرفة الإسلامية عودتنا على العكس، حيث تتحول الحلول لبعض المشكلات مع مضي الوقت إلى منتجات يروج لها، بل وقد تطغى على المنتجات الأخرى. وللاستدلال على ذلك، مثل ما حدث في التورق الذي كان في أساسه حلا لتوفير التمويل النقدي فأصبح الأداة المهيمنة على سوق التمويل الإسلامي، وألغى ما عداه من أدوات التمويل الإسلامي الأخرى، وهذا ما أخشى أن تتحول إليه أدوات إدارة المخاطر في الصناعة المالية الإسلامية، بحيث تتحول من أدوات لإدارة المخاطر إلى صناعة قائمة بذاتها، كما في صناعة الصيرفة التقليدية.

وأحب في هذا المقام أن أذكر القائمين على صناعة الصيرفة الإسلامية بقول الله تعالى «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (البقرة 44). وبقول الشاعر العربي: «لا تنه عن خلق وتأتي مثله ـ عار عليك إذا فعلت عظيم». والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية