مؤسسة الوقف

لاحم الناصر

TT

الوقف هو مؤسسة إسلامية بامتياز وضعت أسسها السنة النبوية المطهرة، فقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». والصدقة الجارية هي الوقف. وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قطُّ أنفس عندي منه فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبستَ أصلها وتصدقت بها، قال فتصدق بها عمر أنه لا يُباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جُناح على من وليَها أن يأكل منها بالمعروف ويطعمَ غير متموّل. وفي رواية: «احبس الأصل وسبِّل الثمرة». ومنها حديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما، قال: لما نزلت «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ بَخٍ، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. وقد أخرج الإمام البيهقي رحمه الله عن جابر أنه قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف.

لقد أدرك الصحابة الكرام أهمية الوقف في النهوض بالمجتمع وسد الفجوة بين الأغنياء والفقراء فتسابقوا عليه، وهكذا سار خلف الأمة على إثر سلفها فوقف العلماء والتجار والخلفاء والأمراء العديد من الأوقاف التي لا يزال بعضها باقيا ينتفع به المسلمون حتى يومنا هذا. وقد تنوعت الأوقاف بين المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات والأربطة والأوقاف على الذُرية والأقارب والأوقاف على الحرمين، بل تعدى الأمر إلى وقف الفنادق والخانات لإيواء الغرباء والنازحين والحجاج والوقف على أماكن إيواء الحيوانات المريضة وعلاجها. ويكفي لبيان أهمية الوقف عند المسلمين وانتشاره بينهم، حكاما ومحكومين، أن نعلم أن الأراضي الوقفية بلغت في مصر وحدها إبان الثورة حوالي نصف مليون فدان.

وقد اهتمت الخلافة الإسلامية بتنظيم شؤون الوقف والإشراف عليه في فترة مبكرة من عمرها حيث تم تأسيس أول ديوان للوقف في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك رحمه الله. إلا أنه، ومع سقوط الخلافة العثمانية وسيادة الاستعمار على الأراضي الإسلامية، فقد شعر المستعمر بأهمية الدور الذي يلعبه الوقف في النهوض بالأمة فسعى بكل قوة لإضعاف هذا النظام وتعطيله لكي يستطيع السيطرة على المجتمعات الإسلامية وكبح استقلالية مؤسساتها وأهل الحل والعقد فيها، وهم العلماء، وقد بقي الضعف في المؤسسة الوقفية سائدا حتى يومنا هذا. ومن هنا فإنه يجب على المسلمين اليوم العودة للنهوض بهذه المؤسسة وتطويرها بما يجعلها قادرة على القيام بالدور المنوط بها وذلك عبر الاستفادة من التجربة الغربية المتطورة في هذا المجال، التي استطاعت في زمن قصير الوصول بالمؤسسة الوقفية في الغرب إلى الاحترافية المهنية، وسيكون مقالي الأسبوع القادم، إن شاء الله تعالى، عن هذه التجربة وكيفية الاستفادة منها في تطوير المؤسسة الوقفية في العالم الإسلامي عبر نموذج الصناديق الوقفية. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية