الصيرفة الإسلامية وعدالة الربح

لاحم الناصر

TT

الصيرفة الإسلامية صيرفة أخلاقية، قائمة على مبادئ سماوية من أهمها العدل الذي عليه قامت السماوات والأرض. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تحض عليه وترغب فيه، قال تعالى «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» (الحديد 25). وقال تعالى «والسماء رفعها ووضع الميزان)» (الرحمن 7). وقال تعالى «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» (النحل 90). وفي الحديث القدسي الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا»، وقد قال العز بن عبد السلام في قوله تعالى «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» هذه الآية جامعة لجوهر الإسلام ومختلف شرائع السماء.

ومن العدل عدم فحش الربح وزيادته عن الحد الذي ينتفي معه كامل الرضا الذي هو مناط حل أموال العباد الوارد في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم» (النساء 29) سواء كانت هذه الزيادة الفاحشة معلومة لدى المشتري كالشراء من المحتكر أو كانت الزيادة الفاحشة غير معلومة للمشتري كالمسترسل وهو من يجهل ثمن السلعة. وقد وردت أحاديث تحرم الزيادة في الربح في الصورتين، منها قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحتكر إلا خاطئ» (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه) ومعنى خاطئ آثم، وفسر العلماء الاحتكار بأنه إخفاء وادخار ما يحتاج إليه الناس حتى تشتد حاجتهم إليه فيبيعه بسعر غال، وهذا أمر محرم لأن فيه تضييقا على الناس في حاجياتهم، ومن ذلك أيضا قوله (صلى الله عليه وسلم) في المسترسل «أيما مسلم استرسل إلى مسلم فغبنه فهو كذا» أي آثم، وفي الحديث الآخر «غبن المسترسل ربا»، قال في غريب الحديث الاسترسال هو الاستئناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدثه به. وقد اختلف العلماء (رحمهم الله تعالى) في مقدار الربح الفاحش، فبعضهم حد له حدا وقدر له تقديرا، وبعضهم جعل تقدير الغبن في الربح الفاحش للعرف وهو الصحيح، ومن هنا فإن الصيرفة الإسلامية مطالبة بتحقيق معيار العدالة في الربح والبعد عن الزيادة الفاحشة فيه وهو ما يلاحظ عليها خصوصا في التمويل الشخصي طويل الأجل، حيث يتم احتساب نسبة الربح المحددة على كامل مبلغ التمويل مضروبا في كامل مدة التمويل بدون الأخذ في الاعتبار ما تم سداده. ولا شك أن هذا من الربح الفاحش في عرف التمويل المصرفي، بل إن القوانين الغربية تصنف مثل هذه المعاملة تحت الربا المحرم في قوانينها التي تفرق بين الفائدة والربا وهو تفريق غير معتبر شرعا. لكنه يوضح مدى عدم عدالة طريقة الاحتساب هذه حتى في القوانين الوضعية، فكيف بالشريعة السماوية التي قامت على العدل؟. لقد شوهت هذه المعاملة وأمثالها صورة الصيرفة الإسلامية التي يفترِضُ من يتعامل معها أنها صيرفة أخلاقية قائمة على شريعة سماوية تأبى الظلم وتحقق العدل، فإذا بها تبز الصيرفة التقليدية الرأسمالية المتوحشة في مقدار الأرباح التي تتقاضها عن عملياتها فتثقل كاهل من يتعامل معها بدافع ديني أو أخلاقي وكأنه يدفع ضريبة التزامه هذا. ولعلها قد وجدت في بعض الآراء الفقهية ملاذا ومخرجا لسلوكها، إلا أنني أرى أن هذا المخرج لن يطول لعدة أسباب، منها اكتشاف الكثير من العملاء لآلية احتساب الأرباح هذه ومدى خطورتها على قيم الأصول التي يحوزونها عبر التمويل الإسلامي، ومن ثم مطالبتهم بتحقيق العدالة في احتساب الربح، وأن كون العملية مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية لا يبرر زيادة الربح زيادة فاحشة. كما أن الكثير من الفقهاء اليوم استشعروا مخاطر آلية احتساب الربح هذه على صناعة الصيرفة الإسلامية ككل، حيث تظهر الصيرفة الإسلامية كصناعة مالية جشعة تستغل حاجة الناس بأبشع الصور، وهو ما يتعارض مع أصول الشرع التي تدعو إلى العدل وتمنع الضرر. فالقاعدة الشرعية تقول «لا ضرر ولا ضرار»، وأن الرضا هو مناط حل أموال العباد، وهو ما لا يتحقق في هذه المعاملة إما نتيجة للحاجة أو نتيجة للجهل بطريقة الاحتساب. ومن آخر هذه الأسباب وأهمها التي ستقضي على هذه الظاهرة، وتعيد الأمور إلى نصابها في مجال احتساب أرباح عمليات الصيرفة الإسلامية، تدخل الجهات الرقابية لوضع آلية لاحتساب أرباح عمليات الصيرفة الإسلامية وتحديد النسبة التي يجب ألا تتعدها هذه الأرباح بأي طريقة احتسبت، وهو ما أتوقعه خصوصا في المملكة العربية السعودية نظرا لقرب إقرار نظام الرهن العقاري، وهو المنتج الذي سيكون متوافقا مع أحكام الشريعة الإسلامية ويمس حاجة من أهم حاجيات المجتمع وهي توفير المسكن، وبالتالي فلا أتوقع أن تترك مؤسسة النقد مهمة طريقة احتساب أرباحها للقطاع المصرفي دون وضع الضوابط وتحديد الآليات لأن هذا من صميم عملها الرقابي، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية