استراتيجية الاستثمار

لاحم الناصر

TT

ينظر العالم إلى منطقة الخليج على أنها مصدر للتمويل قليل الكلفة نتيجة للفائض النقدي لديها مع قلة القنوات الاستثمارية المتاحة فيها، إلا أن أموال هذه المنطقة كانت تعاني من التمييز في الدول الغربية حيث تمنع من الاستثمار في الكثير من المجالات الحيوية. ولعل الكثيرين منا يتذكرون أزمة مواني دبي في أميركا وما صاحبها من لغط إعلامي غربي وتصعيد سياسي، مما اضطر الشركة في النهاية إلى التخلي عن الصفقة. وهذا التمييز قد يظهر في صورة صارخة كما في حالة مواني دبي، أو في صورة ناعمة عبر أساليب ملتوية كالقول بأن هذا النوع من الاستثمار لا يتوافق مع القوانين المحلية أو أنه يتعارض مع الأمن القومي. لكن الأزمة المالية العالمية وما صاحبها من شح للسيولة في الغرب وانكماش وركود اقتصادي أدى إلى إفلاس الكثير من المؤسسات وارتفاع حجم البطالة وعجز الموازنات، وأجبر الكثير من الحكومات والمؤسسات الغربية على التخلي عن تحفظها وعنصريتها التي كانت تحكم نظرتها لاستثمارات هذه الأموال، ففتحت الأسواق المغلقة وأبواب الشركات الموصدة أمامها وأصبحت هذه الأموال محل ترحيب واستقطاب أينما حلت أو ارتحلت، فانعكس هذا الأمر إيجابا على صناعة الصيرفة الإسلامية ومؤسساتها. حيث إن الكثير من السيولة المستهدفة تدار من قبل هذه الصناعة، إلا أن المؤسسات المالية في المنطقة، ومن ضمنها المؤسسات المالية الإسلامية والصناديق السيادية، لم تستغل هذا الانفتاح للاستثمار الاستراتيجي، وذلك عبر الاستثمار في المجالات الحيوية التي يمكن أن توفر للمنطقة في المستقبل التقنية الدقيقة التي هي في أمسّ الحاجة إليها، أو في المؤسسات التي لديها تأثير على صانع القرار كالمؤسسات المالية والشركات الصناعية الكبرى التي لديها الكثير من الموظفين وتتمتع بثقل انتخابي، حيث يمكن للاستثمارات النوعية هذه أن تمنح المنطقة «لوبي» داخل هذه الدول يمكن أن يؤثر إيجابا في أي قرارات تتعلق بمصالح المنطقة وشركاتها في المستقبل، وجميعنا اليوم شاهد على قوة تأثير جماعات الضغط (اللوبي) على صانع القرار في قضية الحكومة الأميركية مع شركة «تويوتا»، حيث وجدت الشركة تضامنا من جميع حكام الولايات التي يوجد للشركة مصانع فيها.

إن افتقار المنطقة ومؤسساتها إلى الخطط الاستثمارية بعيدة المدى التي تسعى لتحقيق أهداف استراتيجية من الاستثمار أدى بالمنطقة، ممثلة في صناديقها السيادية ومؤسساتها المالية والإسلامية من ضمنها، إلى التعامل مع هذا الانفتاح بعقلية المضارب الباحث عن الربح السريع، لا المستثمر الاستراتيجي ذي الرؤية والهدف، وهو ما سيحرم المنطقة من الاستفادة من الأزمة لترسيخ مصالحها في هذه الدول وحمايتها من الضغوط في المستقبل وتعزيز وجودها في مراكز صنع القرار.

وعلى النقيض من تعامل المنطقة ومؤسساتها مع الأزمة نجد أن الصين سعت لتوظيف استثماراتها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية التقنية والسياسية والمالية بعيدا عن التوترات والحساسيات التي تثيرها مثل هذه الاستثمارات في حال الرخاء الاقتصادي، حيث الجميع اليوم منشغل عن ذلك بالحد من آثار الأزمة المالية العالمية، وهو تعامل ينم عن رشد سياسي.

وبما أننا لم نخرج من الأزمة بعد فإنني أرى أن الفرصة ما زالت مواتية لدول المنطقة للتحول للاستثمار الاستراتيجي بما يحقق أهدافها بعيدة المدى.

كما أن صناعة الصيرفة الإسلامية ومؤسساتها في المنطقة مطالبة بتعديل سلوكها الاستثماري بما يحقق المصالح العليا للمجتمع، عبر البحث عن الفرص الاستثمارية الاستراتيجية بعيدا عن السلوك المضاربي والاستثمار الهامشي الذي لا يقدم أي قيمة مضافة إلى الاقتصاد والمجتمع، بل هو سلوك يدل على الجشع وقصر النظر، وهو ما يتناقض مع المقصد الشرعي لاستثمار المال ويحول دون تحقيق مبدأ الاستخلاف في الأرض. الله ولي التوفيق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية.