الصيرفة الإسلامية تطبق أحكام فقه المعاملات المالية الإسلامية

TT

في وقت اختلطت فيه المفاهيم والمصطلحات وجب على العلماء ضبط هذه المصطلحات وإعادتها إلى نصابها لتؤدي الدور الذي وضعت من أجله وحتى تكون المحجة واضحة والحجة ظاهرة. لا سيما وأننا في زمن - ولله الحمد - أصبحت فيه النفوس متعلقة بالشريعة مما جعلها موردا لكل من أراد أن ينفق بضاعته، وعلى رأسهم المؤسسات المالية التي اتخذت من الشريعة الإسلامية هوية وشعارا حتى أصبحت ملازمة لاسمها تحل معها وترتحل، فاستفادت من هذا المناخ الإيجابي تجاه كل ما يمت للدين بصلة لتسويق نفسها ومنتجاتها. إلا أن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع أن هذه المؤسسات تتفاوت في تطبيقها للشريعة الإسلامية بين مكثر ومقل في أخذه بأحكامها، حيث إن قلة قليلة من هذه المؤسسات هي التي تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، في حين أن الغالبية العظمى تلتزم فقط بتطبيق أحكام فقه المعاملات المالية في الشريعة الإسلامية. وللتفريق بين الأمرين أورد تعريف الشريعة الإسلامية وتعريف أحكام المعاملات المالية في الشريعة الإسلامية، فالشريعة الإسلامية، كما عرفها الإمام ابن حزم رحمه الله هي «ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه في الديانة، وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله، والحكم منها للناسخ». أما تعريف أحكام فقه المعاملات المالية في الشريعة الإسلامية، كما عرفها الدكتور بشير عبد العالي فهي «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية المتعلقة بالعقود والتصرفات المالية». فالتعريف يظهر أن بين الأمرين عموما وخصوصا، حيث إن أحكام الشريعة الإسلامية أعم وأشمل فتدخل فيها العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، فهي تنظيم شامل لجميع مناحي حياة العبد في الدنيا، في حين أن فقه المعاملات هو جزء من هذه الشريعة الشاملة الكاملة. ومن هنا يمكن لنا أن نفسر التناقض الحاصل في تصرفات بعض المؤسسات المالية التي جعلت من الشريعة الإسلامية شعارا لها وهوية، مع هذا الشعار والهوية! وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال، حيث صدمت قبل أيام بإعلان تسويقي لإحدى المؤسسات المالية الإسلامية تظهر فيه نساء متبرجات غير متحجبات وبشكل مسف لا يليق بمؤسسة مالية إسلامية. والأدهى والأمر أن الإعلان بعد كل ذلك يختم بعبارة «نطبق أحكام الشريعة الإسلامية»، فعن أي شريعة يتحدثون وأي شريعة يطبقون. والحقيقة أن الأمر لا يقتصر على هذا الإعلان فقط بحيث يقال إنها تجربة خاصة لا يمكن تعميمها أو خطأ غير مقصود، بل إن الأمر يكاد يكون ظاهرة في مجال التسويق للمنتجات الإسلامية، وهو ما أعتبره إساءة وعدم احترام للشريعة الإسلامية التي تسوق هذه المنتجات باسمها. كما أن البعض من المؤسسات المالية الإسلامية لا تراعي أحكام الشريعة الإسلامية التي تنظم بيئة العمل وسلوك الموظفين، حيث تجد تناقضا واضحا بين شعار تطبيق الشريعة المرفوع، وبيئة العمل وسلوك الموظفين داخل هذه المؤسسات. لذا فإنني أرى لزاما على الهيئات الشرعية من باب الحمية للدين والذب عنه إلزام هذه المؤسسات بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع أعمالها وتصرفاتها وفقا للشعار الذي ترفعه، كما فعل الشيخ تقي الدين عثماني مع بنك دبي، حيث أصدر فتوى بإلزام الموظفات بالحجاب الشرعي أو أن تكون هذه المؤسسات أكثر تحديدا في الشعار الذي ترفعه، بحيث تتحول من التعميم للتخصص فيكون شعارها «نطبق أحكام فقه المعاملات المالية الإسلامية»، وذلك حتى لا تلتبس الأمور على المتلقين، لا سيما وأن بعضا من المؤسسات التي ترفع هذا الشعار مؤسسات غربية أو موجودة في الغرب.

إن استمرار هذه الحالة من الانفصام بين الشعار والتطبيق ليس في صالح الصناعة المالية الإسلامية، حيث يكون سببا في انتقادها والتنقيص منها والهجوم عليها ووصمها بالكذب والمراوغة والتدليس واستخدام الدين لخدمة أغراضها دون الالتزام الحقيقي بأحكامه. كما أنه يسيء للشريعة الإسلامية باختزالها في أحكام المعاملات المالية وهي الشريعة الكاملة الشاملة.

إن ممارسة المؤسسات المالية التي ترفع شعار تطبيق الشريعة الإسلامية لما يتناقض مع هذا الشعار دون إنكار واضح من الهيئات الشريعة المشرفة عليها يتناقض مع العهد والميثاق الذي أخذه الله على العلماء قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ» (آل عمران آية 187).

قال ابن كثير: «وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم (أي اليهود) فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم».

بل إن الأمر قد يتعدى مسألة عدم البيان إلى الإقرار الضمني لهذا المنكر، خصوصا إذا كان الإعلان ممهورا بخاتم الهيئة الشرعية دون إنكار منها لذلك. وهو أمر ننزه أصحاب الفضيلة عنه، إلا أنهم يجب عليهم تدارك ما غفلوا عنه حتى لا تساء بهم الظنون. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية