خبراء مصرفيون: الانتخابات السودانية فرصة ليراجع المسؤولون الجنوبيون عمل البنوك الإسلامية

سحب فروع البنوك الإسلامية من الجنوب نكسة للعمل المصرفي في السودان

TT

يعقد خبراء في المصرفية الإسلامية في السودان، أملا كبيرا في الانتخابات التي جرت في البلاد مؤخرا، لكونها توفر فرصة نادرة للقائمين على أمر السودان، بأن يراجعوا سياساتهم الإجرائية الخاصة بما آل إليه وضع المصرفية الإسلامية في جنوب السودان تحديدا.

ويأتي ذلك الأمل في وقت سحبت كل فروع البنوك الإسلامية التي كانت تعمل في هذه المساحة من السودان لعقود مضت، ساهمت من خلالها البنوك الإسلامية في تنفيذ البرامج التنموية، التي تعطلت بسبب الحرب التي كانت دائرة قبل اتفاقية السلام.

وأوضحوا في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن سحب 8 فروع لبنوك إسلامية من جنوب السودان، تم بموجب اتفاقية السلام التي وقعت أخيرا بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان، ولم يسمح لأي من تلك البنوك ممارسة عملياته المصرفية، ما عدا فرع البنك الزراعي.

وأكدوا أن إجراء سحب هذه البنوك الإسلامية من الجنوب كانت له آثار وخيمة انعكست سلبا على التنمية في الجنوب، والذي حرم جراء ذلك من دخول استثمارات إسلامية كبيرة، كان يمكن أن تسهم بشكل فاعل في تحقيق استقرار معيشي وتنموي فيه.

وناشد الخبراء رئاسة جنوب السودان، بأن يتراجعوا عن بنود الاتفاقية الخاصة بمنع عمل المصرفية الإسلامية في الجنوب، حتى يتسنى لهم مزاولة العمل المصرفي الإسلامي فيها وبالتالي التمتع بمزاياه، خاصة في ما يتعلق بجدواه في منع حدوث أزمات مالية ومن ثم تحصينه من آثار الأزمة المالية العالمية، التي حلت الآن في العالم.

ودعا الخبراء المسؤولين الجنوبيين إلى النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، كأين ينظروا إلى المصرفية الإسلامية كنظام مصرفي محصن من الأزمات، ليس كنظام إسلامي أو ديني فقط، وليحذوا حذو الدول غير الإسلامية من غرب وشرق العالم التي حاولت الاستفادة من مزايا المصرفية الإسلامية، وكبح جماح انعكاسات الأزمة المالية العالمية، كما هو الحال في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وألمانيا ودول شرق وجنوب آسيا.

وأكد الدكتور صابر محمد الحسن، محافظ بنك السودان المركزي، أن النظام المصرفي في السودان ظل محصنا في شمال وجنوب السودان على السواء من إشكالات النظام المصرفي التقليدي، لفترات طويلة وذلك لتسلحه بمقومات نظام المصرفية الإسلامية، مشيرا إلى أن ذلك وضح جليا في تصديه لآثار الأزمة المالية والاقتصادية التي اجتاحت نواحي كثيرة من العالم. غير أن محافظ بنك السودان عاد فأقر بأن ازدواجية العمل المصرفي في السودان الذي فرضته اتفاقية السلام، أخيرا، عقدت إدارة القطاع المصرفي وإدارة السياسة النقدية تعقيدا شديدا، كما صعبت مسؤولية البنك المركزي طوال الفترة التي عقبت الاتفاقية، مشيرا إلى أنه كان في الجنوب ثمانية بنوك تعمل وفق النظام الإسلامي، وأسهمت إلى حد كبير في تنمية الجنوب، ذلك لأنها لا تسمح بالاستثمار في أنواع الأصول المالية التي أسهمت في خلق هذه الأزمة المالية التي يعاني آثارها العالم حتى هذه اللحظة.

وأضاف: «المصارف الإسلامية لا تستخدم المشتقات والمستقبليات وصناديق التحوط في النظام المصرفي في الجنوب، إذ إن هذه الاستثمارات غير مسموح بالتعامل معها في النظام المصرفي الإسلامي المعمول به في السودان بشكل عام». أوضح صابر أنه جاءت اتفاقية السلام ففرضت ازدواجية العمل المصرفي، حيث يطبق النظام المصرفي الإسلامي في الشمال، بينما في الجنوب يطبق نظام مصرفي تقليدي، مشيرا إلى أن ذلك كان نتاجا لاتفاق سياسي، لم يكن أمامه إلا أن ينفذ هذا الاتفاق ويطبقه. وأشار محافظ بنك السودان المركزي إلى أن التعقيدات التي نتجت من تطبيق النظام المزدوج فاقمت من حجم تأثر المصارف السودانية بالأزمة المالية العالمية في الجنوب تحديدا، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن النظام المصرفي التقليدي في الجنوب لم يكتمل على الرغم من أن البنك المركزي قام بكامل مسؤولياته، ابتداء من تأسيس بنك جنوب السودان، وهو الفرع الرئيسي لبنك السودان المركزي بالجنوب، الذي منحه صلاحيات وتطبيقات النظام المصرفي التقليدي، كما قام البنك المركزي بوضع الأسس والضوابط والرخص لقيام البنوك التقليدية مع أسس الرقابة والمتابعة.

ولذلك، يرى صابر أن فقدان الجنوب فرصة التمتع بمزايا النظام المصرفي الإسلامي، شل النشاط الاقتصادي في جنوب السودان، ذلك لأن فكرة التخلي عن هذا النظام والاستعاضة عنه بالنظام المصرفي التقليدي، لم تجد إقبالا كبيرا من الناس لفتح وتأسيس بنوك تقليدية بالجنوب، سواء كان ذلك من الجنوبيين أنفسهم أو الشماليين، أو حتى من المستثمرين والبنوك الأجنبية. ومع ذلك، يتفاءل صابر بأن يتم تغيير هذا الواقع المصرفي في جنوب السودان بعد الانتخابات التي جرت مؤخرا والتي من شأنها الإسهام بالضرورة في تغيير طريقة التفكير التي نجمت عنها اتفاقية السلام في ما يتعلق بالنظام المصرفي في الجنوب تحديدا.

ويرى أن الانتخابات هي الفرصة الوحيدة التي يمكن أن تسنح، فرصة مراجعة جميع الإجراءات الخاصة بالنظام المصرفي، والعودة مرة أخرى للنظام المصرفي الإسلامي وإعادة جميع البنوك الإسلامية التي كانت تعمل في الجنوب، بل وفتح الفرصة لافتتاح المزيد من البنوك والفروع التي تعمل وفق النظام الإسلامي، حتى ينعم الجنوب بمزاياه ومن ثم الاستفادة منه في جلب أكبر قدر من الاستثمارات الكبيرة من داخل وخارج السودان، التي من المؤكد ستسهم في تنمية الجنوب وتقيه شر وانعكاسات الأزمة المالية العالمية والتي طالت البعيد والقريب. من ناحيته، أوضح الدكتور أحمد جبريل مدير إدارة البحوث الاقتصادية في بنك «فيصل الإسلامي السوداني» أن الصيرفة الإسلامية تعد من أكثر القطاعات نموا وانتشارا على المستوى العالمي، فضلا عن أنها ذات بعد اقتصادي واجتماعي ومعرفي متقدم، وبالتالي فإنها أخذت بعدا عالميا، مما جعلها أحد أقوى الخيارات لحل أزمات الاقتصاد المالي العالمي. وبالنسبة إلى وضع المصرفية في السودان بصفة خاصة، أوضح جبريل أن السودان يعتبر أكبر قطر يحتكم في جميع معاملاته إلى الشريعة الإسلامية، وأنه صاحب تجربة ثرية في هذا المجال، مبينا أن هذا أدى في نهاية المطاف إلى أن تنمو المصارف الإسلامية بمعدلات عالية، من حيث الانتشار الجغرافي، والتحديث في الأنظمة، والموارد، والاستثمارات، والأرباح، ونظم الرقابة، وذلك بفضل السياسة الرشيدة والحكيمة لبنك السودان المركزي واتحاد المصارف السوداني ومجالس إدارات المصارف والإدارات التنفيذية والعاملين بالمصارف بجانب الدعم والتطوير من المؤسسات الأكاديمية بالسودان، مشيرا إلى أن كل هذه الجهات يرجع لها الفضل، من بعد الله تعالى، في تسريع تطبيق الصيرفة الإسلامية في السودان. وأضاف جبريل، أن هذا التطور في المصارف الإسلامية في السودان شمل الولايات كافة، غير أن الولايات الجنوبية حظيت بالاهتمام الأكبر، خاصة في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، حيث بلغ عدد المصارف الإسلامية في الجنوب ثمانية مصارف، هي: بنك فيصل الإسلامي السوداني، بنك الخرطوم، البنك الزراعي السوداني، بنك أم درمان الوطني، بنك الشمال الإسلامي، بنك التنمية التعاوني الإسلامي، بنك المزارع التجاري، وبنك آيفوري. واستطرد بأن عدد الفروع لهذه المصارف، بلغ عدد 19 فرعا منتشرة في المدن الرئيسية بجنوب السودان، مؤكدا أن هذه الفروع ظلت تسهم في عمليات التنمية بالجنوب على الرغم من ارتفاع معدل التكلفة فيها وانخفاض أرباحها، مما أكسبها قاعدة متينة من المتعاملين من أبناء الجنوب.

وأضاف «أسهمت تلك المصارف بصورة طيبة في نشر الوعي المصرفي الإسلامي»، وأشار جبريل إلى أنه بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل بالسودان، التي نصت على قيام نظام مصرفي مزدوج إسلامي في الشمال وتقليدي في الجنوب، بادرت حكومة الجنوب بتوجيه المصارف العاملة في الجنوب بالتعامل وفق النظام التقليدي، أي نظام سعر الفائدة أو وقف التعامل المصرفي، مما اضطر هذه البنوك إلى إغلاق فروعها بالجنوب. وبما أن البنية التحتية في جنوب السودان تحتاج إلى تأهيل كبير، والحديث لجبريل، كان من الأفضل للجنوبيين إفساح المجال لهذه المصارف أن تقدم خدماتها وتسهم في التنمية، وخاصة أن نسبة المسلمين في جنوب السودان نسبة كبيرة. وأوضح أن هذا الوضع أدى إلى شبه توقف كامل للعمل المصرفي في الجنوب، وأحجم المسلمون في الجنوب عن التعامل مع البنوك الربوية بالجنوب، فضلا عن ضعف وقلة عدد البنوك التقليدية في الجنوب، مما أدى إلى عدول حكومة الجنوب عن قرارها بالسماح للبنك الزراعي السوداني بالعمل بنافذتين إسلامية وتقليدية. وبرأي مدير إدارة البحوث الاقتصادية في بنك فيصل الإسلامي السوداني، فإنه بعد الانتخابات الحالية، سيكون الوضع مستقرا أكثر خاصة في جنوب السودان، كما أن قنوات ووسائل الاتصال سوف تكون أسهل، كما أن البرامج سوف تتجه نحو التنمية بأشكالها كافة، مما يدعم فرص الاستقرار واستدامة السلام والوحدة، وهذا أصبح مطلبا في الجنوب والشمال.

وقال جبريل: «بما أن التنمية في الجنوب في هذه المرحلة ضرورة ملحة، خاصة لحكومة الجنوب، فإنه من المتوقع أن تزول حالة التوتر ويسود بدلا عنها تبادل الثقة بين الشمال والجنوب وتنشط برامج ومشروعات التنمية». وتابع: «هذا بالطبع يحتاج إلى وسائل وأدوات مساعدة أهم أعمدتها هي المصارف، وفي تقديره أن المصارف الإسلامية هي الأوفر حظا بالظفر بهذه المشروعات، خاصة بعد انعكاسات الأزمة المالية العالمية على المصارف التقليدية»، فضلا عن الفساد المالي المستشري في المصارف التقليدية (على قلتها) في الجنوب.

ولفت إلى أن المصارف الإسلامية تقدم تمويلا حقيقا للتنمية وليس قروضا ربوية لا صلة لها بالتنمية كما تفعل البنوك التقليدية، وعليه، يعتقد جبريل أنه في حال السماح للمصارف الإسلامية بالعمل في الجنوب، فإنه بالطبع سوف تنهال الاستثمارات على الجنوب بصورة مكثفة، بل سوف يكون ذلك دافعا لتدفق رؤوس الأموال العربية والإسلامية على الجنوب، وفي تقديره فإن ذلك ممكن. وأضاف جبريل «لن يكون سهلا على المصارف الإسلامية لوجود بعض التحديات التي تواجهها، منها على سبيل المثال الإسهام في تأهيل البنية التحتية في الجنوب، خاصة قطاع الاتصالات، باعتبار أن العمل المصرفي في السودان أصبح يعتمد في الأساس على الاتصالات وتقنية المعلومات، أيضا تحدي نشر الوعي المصرفي الإسلامي وتبيان كفاءته هذا بجانب الموارد المالية والعنصر البشري وتدريبه وتأهيله». وأما الخبير المصرفي عبد اللطيف عبد الله عبد اللطيف، مدير «الشركة السودانية للأوراق المالية» بالإنابة سابقا، فقد اتفق مع كل ما ورد على لسان كل من صابر وجبريل، مبديا تفاؤلا وأملا كبيرين، في أن تفضي الانتخابات التي جرت في السودان مؤخرا، إلى واقع سياسي جديد يراعي الحاجة الحقيقية لإطلاق عنان العمل بالنظام المصرفي الإسلامي في جنوب السودان، بعد العدول عن سياساتهم الإجرائية الخاصة بما آل إليه وضع المصرفية الإسلامية في جنوب السودان تحديدا، بعد انسحاب البنوك الإسلامية من الجنوب، أو بالأوضح منع مزاولة هذه البنوك عملها في الجنوب وطردها منه. وأكد عبد اللطيف أن طرد الحركة الشعبية للبنوك الإسلامية في الجنوب، كانت خطوة غير موفقة، بل نكسة حقيقية في تاريخ العمل المصرفي في السودان، بسبب التعقيدات والصعوبات التي واجهها بسبب ازدواجية العمل المصرفي (نظام مصرفي إسلامي في الشمال وآخر تقليدي في الجنوب).

وأوضح عبد اللطيف، أن سحب كل فروع البنوك الإسلامية التي كانت تعمل في هذه المساحة من السودان لعقود مضت، أسهمت من خلالها البنوك الإسلامية في تنفيذ البرامج التنموية التي تعطلت بسبب الحرب التي كانت دائرة قبل اتفاقية السلام، كأنما كان عقابا لإنسان الجنوب وليس خدمته التي ينشدها وكان ينتظرها طويلا.

وقال إن طرد هذه البنوك الإسلامية من الجنوب كانت له آثار وخيمة انعكست سلبا على التنمية في الجنوب، الذي حرم جراء ذلك من دخول استثمارات إسلامية كبيرة، كان يمكن أن تسهم بشكل فاعل في تحقيق استقرار معيشي وتنموي فيه.

وناشد رئاسة جنوب السودان، بأن يستفيدوا من المناخ الديمقراطي الذي تفرزه الانتخابات التي جرت مؤخرا، ليراجعوا جزئية بنود الاتفاقية الخاصة بمنع عمل المصرفية الإسلامية في الجنوب، حتى يتسنى لهم مزاولة العمل المصرفي الإسلامي فيها وبالتالي التمتع بمزاياه، خاصة في ما يتعلق بجدواه في منع حدوث أزمات مالية، ومن ثم تحصينه من آثار الأزمة المالية العالمية التي حلت الآن في العالم.