الصيرفة الإسلامية وجينات الرأسمالية

TT

ما كنت أحذر منه قد وقع! فها هي الصيرفة الإسلامية التي سلمت من الأزمة المالية العالمية الناتجة عن المشتقات المالية بسبب عدم تعاملها في هذه المشتقات، تجر إلى المذبح دون أدنى مقاومة، بل هي من تسير إليه مهرولة بدفع - ويا للأسف - من أبنائها والعاملين عليها الذين سلبوا إرادتهم نتيجة للهزيمة النفسية التي تعاني منها الأمة اليوم، والتي يبدو أنها أشد سطوة في النفوس مما نعتقد! حيث ظننا أن ما مر به العالم من تجربة خرجنا منها سالمين يمكن أن تعزز ثقتنا في صحة المنهج المالي الإسلامي الذي نسير عليه، مما يمنحنا القدرة على الاستقلال عن النظام الرأسمالي ورفض التبعية له. لا سيما وقد اكتسب المنهج المالي الإسلامي اعترافا دوليا بصحة قواعده التي تجنبه الوقوع في الأزمات. إلا أن ما صدر من بيان قبل أيام حول إطلاق (اتفاقية التحوط الرئيسية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية) التي تعاونت في إعدادها السوق المالية الإسلامية في البحرين والاتحاد العالمي للمشتقات والمقايضات بهدف إيجاد اتفاقية معيارية موحدة تتعامل بها جميع المصارف الإسلامية في مجال التحوط، هو مقدمة لتسهيل ظهور سوق للمشتقات المالية الإسلامية تفتح الباب أمام المضاربة على المشتقات المالية الإسلامية بهدف التربح لا التحوط. وهو ما تعلمناه من تاريخ المشتقات التقليدية التي نشأت في البداية بهدف التحوط من بعض المخاطر إلا أنها اليوم أصبحت تشكل صناعة مالية مستقلة بذاتها تناهز 600 تريليون دولار، لا تتجاوز نسبة العقود المستخدمة فيها بغرض التحوط 3 في المائة من إجمالي هذه السوق الضخمة، في حين أن نسبة 97 في المائة من عقودها تتم بهدف المضاربة.

إن هذه الخطوة لتؤكد ما ذهبت إليه سابقا من أن عدم وقوع الصيرفة الإسلامية في براثن الأزمة ناتج من عدم توافر المشتقات المالية المهيكلة إسلاميا في حينه، وليس بسبب قناعتها بخطورة هذا النوع من الأوراق المالية. ولعل ذلك ناتج، كما يقول الدكتور محمد الراشد، عن عدم وجود نظرية مالية إســـــلامية، حيث إن الموجــــــــود هو هيـــــــــكلة إسلامية للمؤسسات والأدوات المالية الرأسمالية لتتناسب مع أحكام فقه المعاملات مع بقاء النظرية الرأسمالية مسيطرة داخل هذه الهيكلة التي أشبهها بالجينات الوراثية التي تنتقل مع الأجيال طورا بعد طور فتبقي على خصائصها النوعية دون تغيير، وهو ما حدث مع الصيرفة الإسلامية. وبالتالي فإن صناعة الصيرفة الإسلامية ستظل تابعة للنظام الرأسمالي تعاني من أمراضه وأزماته ما لم تقم باكتشاف النظرية المالية الإسلامية الموجودة في علل الأحكام الشرعية، ومن ثم صياغتها كنظرية مالية مستقلة تقوم عليها الصناعة المالية الإسلامية. ولا شك أن هذا عمل شاق وطويل تحتاج معه إلى تضافر الجهود، إلا أنه ليس بالعمل المستحيل، خصوصا مع توافر الكثير من الكراسي العلمية البحثية الخاصة بصناعة الصيرفة الإسلامية في الكثير من المؤسسات الأكاديمية العربية والإسلامية.

وحتى تتم صياغة هذه النظرية المالية الإسلامية التي ستكسب الصناعة المالية شخصيتها المستقلة وتمنحها جيناتها الخاصة بها، فيجب على الهيئات الشرعية رفض مثل هذه المنتجات الهجينة المستنسخة، وذلك حفاظا على الصناعة المالية الإسلامية من التعرض إلى ما يدمرها. حيث إن هذه الأدوات المالية المعقدة التي تزداد تعقيــــدا بمحاولة هيكلتها لتصبــــح متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، هي قنابل موقوتــــــة للمتعاملين بها وللنظام الاقتصادي، وأســـلحة دمار شـــــامل كمـــــا وصفها وران بافيت. كما أنها لا تخدم غرضـــــا معينا سوى المضاربة على وجه الخصوص، كما قال المضارب الأميــــــركي الشــــــــرس جورج سورس. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية