هل لأزمة الديون السيادية أثر على الصيرفة الإسلامية

TT

لم يكد العالم يلملم أشتاته ويضمد جراحه جراء أزمة الرهون العقارية الأميركية، حتى أطلت أزمة أخرى برأسها، وهي أزمة الديون السيادية التي حذرنا من انفجارها في مقالاتنا السابقة، وذكرنا أن خطرها على الاقتصاد والاستقرار العالمي سيكون أعظم من سابقتها؛ لأنها تتعلق بديون الدول، وليس الشركات والأفراد، حيث إن النظام المالي العالمي لا يملك حتى الآن قانونا يعالج من خلاله إفلاس الدول، على الرغم من تكرار حالات إفلاس الدول في العصر الحديث، عكس الديون التجارية التي توجد قوانين تعالج إفلاس الجهات المدينة، يمكن من خلالها التقليل من آثار هذا الإفلاس. كما أن خطورة أزمة الديون السيادية الحالية أنها لا تتعلق بدولة واحدة، بل هناك الكثير من الدول التي يتوقع لها أن تخفق في الوفاء بالتزاماتها؛ حيث لن يتوقف الأمر عند اليونان، فهناك البرتغال التي خفضت وكالات التصنيف الائتماني تصنيفها بواقع درجتين، وإسبانيا التي تم تخفيض تصنيفها بواقع درجة. ومما يزيد الطين بلة ويفاقم من حجم مشكلة الديون السيادية وآثارها على الاقتصاد العالمي وقوعها في أضخم اتحاد نقدي في العالم، وهو منطقة اليورو، الذي يعتبر اليوم العملة الثانية في التعامل الدولي بعد الدولار، مما يعني انعكاس هذه الأزمة سلبا على دول الاتحاد الأوروبي التي هي أضخم كتلة اقتصادية في العالم، ومن هنا نجد أن الفزع الذي أصاب الأسواق العالمية مبرر؛ حيث تهاوت أسواق الأسهم والسلع والطاقة حول العالم، فلم ينج من ذلك أحد. ومن هنا فإن الحديث عن عدم تأثر الصيرفة الإسلامية بهذه الأزمة هو من وجهة نظري من المغالطات الفاضحة الواضحة، حيث إن الصيرفة الإسلامية لا تعمل بمعزل عن الأسواق العالمية، وليست محصنة ضدها؛ فقد رأينا تأثير أزمة الرهون العقارية وتداعياتها على الصناعة ومؤسساتها، ومن هنا يجب علينا التفريق بين التأثر المباشر والتأثر غير المباشر، وهذا ما سيجنبنا القراءة الخاطئة للتقارير الصادرة عن وكالات التصنيف الائتماني، التي نفت تأثر الصيرفة الإسلامية بأزمة اليونان تأثرا مباشرا، وهو ما يعني عدم وجود أصول لدى هذه الصناعة لها علاقة بهذه الأزمة، كالسندات وغيرها من أدوات الدين الأخرى بسبب أن الشريعة الإسلامية تحرمها، لكنها لم تتطرق للتأثير غير المباشر لهذه الأزمة على الصيرفة الإسلامية، الذي بلا شك سيكون بالغا بسبب تأثير الأزمة على العوامل الاقتصادية المحفزة لها ومكونات أصولها، ومن أهم العوامل المحفزة لنمو هذه الصناعة التي ستتأثر بشدة جراء هذه الأزمة: أسعار البترول التي يتوقع أن تنخفض نتيجة تخوف الأسواق من تأثيرات الأزمة على الطلب العالمي، مما سيؤدي إلى تقلص في حجم السيولة المتاحة أمام هذه الصناعة، كما أن من أهم مكونات أصول هذه الصناعة التي ستتأثر بشدة استثماراتها في أسواق الأسهم والعقارات ثأاالتي تشكل جل أصول محافظها الاستثمارية، أضف إلى ذلك تعرضها الشديد لمخاطر تقلبات العملة المصاحبة لاستثماراتها في الأسواق العالمية نتيجة عدم وجود أدوات تحوّط فعالة يمكن لها أن تحد من هذه التقلبات.

ومن ثم فإن صناعة الصيرفة الإسلامية، وقد شبت عن الطوق اليوم فأصبحت صناعة راشدة، مطالبة بدراسة هذه الأزمات دراسة معمقة، والبحث في كيفية معالجة آثارها الحالية ومدى إمكانية تجنبها مستقبلا، والحد من آثارها، مع السعي الحثيث لإنشاء بنك مركزي للصيرفة الإسلامية يتولى القيام بالمهام المشتركة التي تهم جميع مؤسسات هذه الصناعة، كالبحث في إمكانية إيجاد نظام تحوّط لتقلبات العملة قائم على ربط احتياطيات هذه المؤسسات المالية من العملات المختلفة بالذهب وتنظيم الاستثمارات قصيرة الأجل لهذه المؤسسات، والقيام بدور المسعف الأخير، وإيجاد سوق مشتركة للتمويل بين المصارف الإسلامية، وهو ما سيؤدي لظهور معيار إسلامي لكلفة التمويل، إلى غير ذلك من المهام الكلية التي تهم جميع أطراف هذه الصناعة، ولعل البعض يقول إن ما تطالب به هو من صميم عمل البنوك المركزية، فأقول نعم، أعلم ذلك، ولكن ما العمل إذا كانت هذه البنوك المركزية لا تعي دورها، أو لا تقوم به على الوجه المطلوب؟ إذا فليس لنا إلا ركوب الصعب، وأخذ زمام المبادرة، فكل ساعة انتظار تزيد من الخطر الذي يحيق بهذه الصناعة ويعوق تقدمها. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية