النظرية المالية الإسلامية.. «وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»

TT

يعتبر الإسلام الربا خطيئة من أكبر الخطايا وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد لُعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده في السنّة النبوية الشريفة على لسان المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، كما أنه ورد فيه الوعيد الشديد في القرآن الكريم، وقد بلغ من أهمية تحريم الربا في الإسلام وذم تعاطيه أنه ورد في سورة مكية هي سورة الروم، آية 39، قال تعالى: «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ». قال الإمام بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير: وهو خطاب للمشركين لأن السورة مكية، ولأنّ بعد الآية قوْلُه: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ». ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظا عليهم، وتعريضا بهم لتخويف المسلمين، ليكرّه إليهم أحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس: «كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام». انتهى كلامه رحمه الله.

لقد كانت آيات السور المكية تتعلق بتأسيس العقيدة ومعالجة مختلف جوانبها لترسيخها في النفوس وللرد على شبهات المشركين التي كانوا يوردونها، فورود الربا في هذه السورة المكية في معرض الذم كان توطئة وبداية لما سينتهي إليه الإسلام في عصر التشريع الذي بدأ في المدينة المنورة من تحريم للربا في قوله تعالى في سورة البقرة، آية 275: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»، وهذه الآية هي خاتمة الآيات التي وردت في تحريم الربا، كما أنها من أواخر آيات القرآن نزولا، ومن ثم فلا حجة لمسلم بعدها في التعاطي بالربا. وحيث إنها قد جاءت محرمة تحريما قطعيا للربا فقد جاء الحكم فيها كاشفا عن علة التحريم، ومبينا أثر تعاطي الربا على المجتمعات والأفراد بلفظ معجز محكم البيان، وعليه فيمكن لنا أن نقول عن هذه الآية إنها النظرية المالية الإسلامية، التي تقوم على أساسين مهمين، هما: تحريم الربا لما يسببه من اختلال في الاقتصاد، وهو ما أشار له سبحانه وتعالى في قوله: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»، ولعل الأزمة المالية العالمية وما صاحبها من تداعيات هي أكبر دليل على هذا التخبط الذي ينتج عن تعاطي المجتمعات بالربا، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام الشعراوي عند تفسيره لهذه الآية. أما الأساس الثاني فهو إباحة البيع بديلا عن سعر الفائدة وجعله مركز دائرة التعامل المالي في حياتنا الاقتصادية، كما يقول الدكتور محمد بن عثمان الراشد في كتابه «نظرية الاستثمار في الإسلام» البديل لسعر الفائدة، وقد علل الدكتور قوله هذا بأن البيع عامل اقتصادي خلاق ينشئ العرض ويفرض الطلب ويزيد من حركة التعامل فيعمل على اتساع السوق في ظل أسعار تتحدد في حرية تامة، وهذا التأثير على العرض والطلب يساعد على تحسين مستوى الأسعار والأجور، وفي تكرار البيع ضمان لاستقرار تام متواصل، فيقضي على التضخم ويمنع ظهور البطالة، فالنشاط الاقتصادي في ديمومة مستمرة، كما أن هذا النظام يمتاز عن غيره في كونه ذاتي التأثير على جميع المتغيرات في النظام الاقتصادي نفسه من حيث إنه لا يحتاج إلى سياسة حكومية مالية أو نقدية للتأثير على الطلب خاصة.

لقد رأيت في فهم الشيخ الشعراوي رحمه الله واستنباط الدكتور الراشد للعلة من الآية وفهمه العميق لها دلالة على إعجاز هذا القرآن الذي لا ينقضي، كما أن فيه دلالة على اصطفاء الله سبحانه وتعالى للبعض من علماء الأمة لاستخراج كنوزه وفهم دلالاته.

ومن هنا فإني أدعو جماهير علماء الأمة اليوم لإعادة دراسة الكتاب والسنّة، دراسة تتناسب مع الواقع المعاصر مع الاستعانة بفهم السلف دون الركون إليه.

* مستشار في المصرفية الإسلامية