هل يكون مركز الملك عبد الله المالي مركزا للصيرفة الإسلامية؟

لاحم الناصر

TT

إذا كنت قد زرت مدينة الرياض قبل خمس سنوات، فإنه بلا شك ستعتريك الدهشة عندما تزورها اليوم، فهي أشبه ما تكون بورشة بناء ضخمة، تزدحم في فضائها رافعات البناء، وتزدحم شوارعها بالشاحنات، وتتعالى فيها هياكل الأبراج، في سباق محموم مع الزمن للإنجاز، وفقا للخطة الزمنية المقررة، وكأنها تريد إدراك ما فاتها. ولعل أبرز هذه المشاريع وأكثرها شهرة، مشروع مركز الملك عبد الله المالي، الذي سيكون الحي المالي لمدينة الرياض، على غرار «وول ستريت» بمدينة نيويورك، و«كناري وورف» بمدينة لندن، حيث تبلغ مساحته نحو 1.6 مليون متر مربع، وسيضم عند انتهائه هيئة السوق المالية وشركة تداول وأكبر المصارف والشركات المالية العاملة في المملكة العربية السعودية وأكاديمية للعلوم المالية والمصرفية.

ونظرا لما تتمتع به المملكة العربية السعودية من سيولة هائلة واستقرار اقتصادي وسياسي وموقع استراتيجي، فيتوقع أن يستقطب المركز الكثير من المؤسسات المالية العالمية، خاصة مع انضمام المملكة العربية السعودية لمنظمة التجارة الدولية، ومن ثم تحريرها لصناعة الخدمات المالية، وحيث إن الصناعة المالية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية هي المسيطرة اليوم على الصناعة المالية في السعودية، حيث تتراوح الأصول الإسلامية المدارة في المملكة العربية السعودية بين 91 إلى 120 مليار دولار، فهي ثاني أكبر دولة في العالم من حيث الأصول الإسلامية بعد إيران. كما أن التمويل المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية يسيطر على 98 في المائة من نسبة التمويل الشخصي، في حين تبلغ نسبته من تمويل الشركات نحو 67 في المائة.

أما في قطاع أسواق المال فجل الأسهم السعودية متوافقة مع الشريعة الإسلامية. كما أنه لا يتداول اليوم في سوق الصكوك والسندات سوى الصكوك الإسلامية، ومن ثم فإن مركز الملك عبد الله المالي مؤهل ليكون المركز الأول في العالم لصناعة المال الإسلامي، متى ما وضع المسؤولون عن الصناعة المالية في المملكة ذلك هدفا لهم، حيث إن هذا الأمر ليس بالأمر العزيز أو الصعب، إذا ما وجدت الإرادة والتصميم على ذلك، ووضعت الأهداف ورسمت الخطط لتنفيذها.

ولعل من أهم العوامل التي ستجعل من مركز الملك عبد الله المالي مركزا لصناعة المال الإسلامي، هو سن الحكومة تشريعات وأنظمة خاصة بهذه الصناعة، مع إنشاء محاكم خاصة للفصل في النزاعات المالية الناشئة عن هذه الصناعة، تحت مظلة وزارة العدل، بعيدا عن اللجان القضائية وشبه القضائية التي تشوه النظام القضائي في المملكة السعودية اليوم، وذلك حتى يستطيع المستثمرون الثقة في المناخ الاستثماري في المملكة. والعامل الآخر المهم هو دعم الدولة لهذه الصناعة عبر إنشاء البنى التحتية لها، كالعناية بالتأهيل المهني للعاملين فيها عبر إنشاء أكاديميات وأقسام داخل الجامعات لتدريس علوم هذه الصناعة، وإنشاء مراكز الأبحاث الخاصة بها، وتشجيع إنشاء الجمعيات المهنية الخاصة بها، مع سعي الحكومة الدؤوب للتعامل وفقا لآليات هذه الصناعة، مثل إصدار الصكوك السيادية بديلا عن السندات، وتشجيع الصناديق الحكومية وشبه الحكومية للتعامل بمنتجات الصيرفة الإسلامية، لا سيما أن هذا الأمر مطلب من أهم مطالب المستفيدين من خدمات هذه الصناديق، مع السعي لدى الجهات الدولية للاعتراف بالمعايير الخاصة بهذه الصناعة. والمملكة قادرة على انتزاع هذا الاعتراف متى ما أرادت ذلك بما لها من ثقل اقتصادي ومالي وسياسي في العالم، لا سيما أنه قد كفتها الصناعة مؤونة إثبات جدارتها بهذا الاعتراف.

إن تبني الدولة لجعل مركز الملك عبد الله المالي مركزا لصناعة المال الإسلامي سينعكس إيجابا على المملكة، حيث سيؤدي إلى عودة رؤوس الأموال المهاجرة واجتذاب المؤسسات المالية العالمية الطامحة إلى الاستفادة من السيولة التي تملكها هذه الصناعة. كما أنه سيكسب المملكة دورا رياديا وثقلا ماليا في الصناعة المالية الإسلامية، حيث إنها ستكون اللاعب الأهم في صناعة المال الإسلامي، التي تضع مبادئه وتصنع معاييره. وإذا عرفنا حجم نمو هذه الصناعة المذهل، الذي يتجاوز نسبة 20 في المائة سنويا، استطعنا تقدير حجم النفوذ الذي ستتمتع به المملكة في المستقبل القريب في صناعة المال حول العالم.

* مستشار في المصرفية الإسلامية