الاستثمار في أعمال الخير.. فكرة إسلامية نجح فيها الغرب وتخلف عنها المسلمون

خبراء اقتصاديون يدعون للاستفادة من تجربة الدول الغربية

TT

أكد خبراء اقتصاديون أن الاستثمار الفائض في أعمال الوقف والأعمال الخيرية من أنجح الحقول التي يمكن أن تجسد نجاح تجربة الاستثمار في البلاد غير الإسلامية وفق قوانين الشريعة الإسلامية، مشيرين إلى أن نجاح الوقف في البلاد الغربية استطاع أن يصل بأصول أموال الأوقاف والجمعيات الخيرية إلى أكثر من 20.7 مليار دولار، حيث قام بتطويرها مجموعة من رجال الأعمال المسلمين في مدينة برمنغهام في بريطانيا، بسبب سعيها الحثيث نحو تطوير آليات إدارة أعمالها بطريقة أكثر احترافية.

ودعا الخبراء في حديثهم لـ«الشرق الأوسط» إلى ضرورة إدخال فكرة الاستثمار في فوائض الأعمال الخيرية والأوقاف إلى حقل صناعة المصرفية الإسلامية، مع أهمية الاستعانة بالتجربة الغربية في مسألة تطوير الآليات التي تدفع بها نحو بلوغ أكبر منفعة يمكن بلوغها، مؤكدين أن البلاد الإسلامية بما فيها العربية بها من الفوائض الخيرية ما لا يعادله أي فائض في أنحاء العالم المختلفة، غير أنه غير مرئي وغير محسوس لأنه في غالب نواحيه يفتقد للشفافية التي هي أحد أهم بنود عملها.

وأوضحوا أن حجم ما يمكن إخراجه من صدقات وزكوات وأعمال خيرية يفوق مئات المليارات من الدولارات، التي كان بالإمكان توجيهها بشكل عصري يحفظ حق الفرد في استجابته لأمر الله وفي الوقت نفسه يكون أحد أهم أذرع حركة النشاط الاقتصادي الإسلامي الذي حري به أن يحث الخطى في مجال المسؤولية الاجتماعية المنوطة بالمجتمعات المسلمة.

وفي هذا السياق، قال الخبير المصرفي الدكتور صادق حماد: «إن الدول الغربية استفادت من الفكر الإسلامي من ناحية استثمار الأعمال الخيرية وتوظيفها وتطوير آلياتها بطريقة احترافية استثمارية عادت عليه بأموال وفيرة تكاثرت هي الأخرى بشكل يجعلهم في مقدمة المساعدين للكثير من شعوب العالم التي يطحنها الفقر والجوع والمرض».

وأشار إلى أن حجم هذه الصناعة شهد نموا كبيرا خلال السنوات القليلة الماضية حتى إن الصناديق الخاصة بها وفي ظل الأزمة المالية الحالية لم تخسر قط بل على العكس فقد حققت مزيدا من الأرباح، وعزا حماد السبب لاستنادها إلى أصول قوية واستثمارها في موارد حقيقية، بعيدة عن الرهون والأوراق المالية الوهمية وتضخم الديون، إضافة إلى ذلك فإن من مميزات هذا الاستثمار الذي يتسم بصبغة التوجه الاجتماعي أنه يقاوم الركود والانكماش الذي تعاني منه بعض القطاعات الاقتصادية.

وقال: «لا بد من توظيف موارد الجمعيات الخيرية بكيفية احترافية توضح تحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها حيث إن هناك نوعين من صيغ الاستثمار التي يمكن استخدامها في ذلك، منها الاستثمار في البعد الاجتماعي»، مبينا أن هذا أصبح توجها عالميا ومحليا في الوقت نفسه، مشيرا إلى أن الصيغة الثانية هي الاستثمار الأخلاقي المسؤول ويشتمل على مكونات معينة تحتاج المراجعة والتدقيق الشرعي.

وأفاد حماد بأن فكرة الاستثمار في فوائض الأعمال الخيرية والأوقاف في البلاد الغربية تقوم على مسألة تخصيص أموال يتحول بعضها إلى أصول غير منقولة أو حافظة قيم منقولة أو غير منقولة تدر عائدا وبعضها سيولة معدة للاستثمار مع تحديد المستفيد أو المستفيدين أو جهات أخرى غير هادفة إلى الربح للصرف عليها من إيرادات، مؤكد إسلاميتها، مبينا أن الغرب حاول نسخها من الوثيقة الإسلامية أثناء الحروب الصليبية، غير أنهم لم يكتفوا بتطبيقها فقط بل عملوا على تطويرها، في الوقت الذي تخلف فيه المسلمون عنها.

واقترح حماد حزمة اقتراحات للجمعيات الخيرية حتى تتمكن من العمل باحترافية وتتوافق مع الأنظمة المعمول بها في السعودية، ودوليا، أولها إنشاء إدارات استثمار احترافية لهذه الجمعيات كما هو الحال في المؤسسات المالية وهي التي تحدد اتجاه الاستثمار، وأين يوضع الاستثمار، ومراعاة حساسية أموالها.

وفي رأيه فإن هذه تحدد نقلة نوعية، أما اقتراحه الثاني فهو ينصب حول التعاون مع شركات الوساطة المالية القائمة والبنوك وإنشاء صناديق خيرية ومحافظ.

وعن سر تنامي ظاهرة الاستثمار في مجال الوقف في البلاد الغربية والدول اللاإسلامية الأخرى كصيغة وقف وشرعيتها، أكد الخبير المصرفي الدكتور مستعين علي عبد الحميد أن مشروعية الفكرة التي بدت غربية الشكل والمضمون إنما هي استمدت ملامح صورتها من الشريعة الإسلامية، حيث نبتت في البلاد الغربية، وتبنتها كفكرة مع أنها أساسها نابعة من الشريعة الإسلامية، حيث كانت تقع تحت مسمى الأرصاد، مبينا أن الصورة الغربية أخذت الملامح من صورتها الأصلية القانونية الإسلامية في كثير من نواحيها وخواصها، مع أنها تختلف معها في بعض النواحي الأخرى، مشيرا إلى صيغة تشبه الوقف ولكنها تختلف عنه من حيث مصدر الأموال التي يمكن أن تكون من بيت المال، إضافة إلى أنها، أي الأرصاد، يمكن تغيير شكلها وإبدالها وتحويلها بمرونة أكثر من الوقف.

وفيما يتعلق بمدى أوجه الشبه بين الوقف الإسلامي والوقف الغربي، أوضح مستعين أن هناك تشابها بينهما فيما يشكل الصيغة المختصة بالوقف تحديدا، غير أن الاختلاف يعود عادة في مصادرها المالية بالإضافة إلى طبيعة التصرف في الوقت الذي يتم فيه تغيير شكله وإبداله وتحويله بمرونة كبيرة وإمكانية تسييله وصرفه في أغراضه أو أغراض مماثلة، في الوقت الذي لا يجوز فيه في حالة الوقف عملية الاستبدال أو تغيير أي من شروطه إلا وفق ضوابط معينة يراقبها القضاء.

وزاد مستعين أن هناك اتجاهين فقهيين مختلفين حول مشروعيته، الأول يعتبره من غير الوقف وهو اتجاه يمثله الحنفية ويفهم من أقوال الشافعية، والسبب بحسب رأيهم هو اختلال شروط صحة الوقف فيه، وهو أن يكون الموقوف مملوكا للواقف حين الوقف، والمرصد هو الإمام أو نائبه وهو لا يملك ما أرصده، داعيا إلى ضرورة توعية الشركات الاستثمارية الإسلامية والمصارف الإسلامية بأن يكون لكل منها إدارة للمسؤولية الاجتماعية وتعاون على تسيير واستثمار هذه الموارد بالطرق الاحترافية والآمنة مضمونة العواقب. أما الاتجاه الثاني فيعتبره وقفا، وهو اتجاه يمثله عدد من الفقهاء المعاصرين، ويعزو هؤلاء السبب إلى توافر شروط الواقف فيه، وأن الأنصاب تكون من الإمام الذي هو وكيل عن بيت مال المسلمين، مشددا على ضرورة إدخال الفكرة إلى الصناعة المالية الإسلامية مرة أخرى، من أجل استثمار أموال الجمعيات الخيرية وتطوير آلياتها بطريقة أكثر فاعلية، مضيفا أن النظام المصرفي الإسلامي لم يؤسس أي صناديق قائمة على أوجه البر حتى الآن، كما أنها لم تطور أموال الصناديق والجمعيات الخيرية ونشاطات البر بشكل فعال، مشيرا إلى أن النظام المصرفي الغربي الآن يقوم بإدارة بعض صناديق الأصول ذات التوجه الاجتماعي التي تقدر بمليارات الريالات وتحقق الكثير من الفوائد للمجتمع الإسلامي وغير الإسلامي.

من ناحيته، أكد الدكتور عبد الرحمن باعشن رئيس مركز الشروق للدراسات الاقتصادية، أن الاستثمار في الفائض من أموال الأعمال الخيرية في الغرب أخذ بعدا اجتماعيا، حيث تقوم العديد من المؤسسات الغربية بالاستثمار فيها في مواضيع تتصل بالمسؤولية الاجتماعية، مشيرا إلى أن هناك اليوم توجها عالميا ومحليا كبيرا نحو مواضيع المسؤولية الاجتماعية التي تتمتع باتفاق كبير من هذه الناحية مع الصيغ الإسلامية مع أنه في البلاد الإسلامية ما زال هناك لبس ولغط في التمييز بين المسؤولية الاجتماعية ونظرة الدين الإسلامي لها وبين الأعمال الخيرية التي تقوم بها مجموعة من الأفراد أو المؤسسات.

وذكر باعشن أن هناك أكثر من شكل من أشكال التطبيقات المعاصرة للاستثمار في فائض الأعمال الخيرية والوقف في الغرب، حيث تختلف تشريعاتها وطرق نظام إدارتها غير أنها لا تخرج عن كونها حقلا استثماريا أو خيريا أو خيريا استثماريا، مؤكدا أن الأخير غالبا ما يجد حصة الأسد في الاهتمام به لكون العديد من شركات إدارة الأصول تقوم بتطويره واستثماره وزيادة حجم أمواله بمختلف الطرق والأساليب، داعيا المؤسسات والجمعيات الإسلامية إلى ضرورة الاستفادة من آليات التطبيق والتنظيم من حيث هياكلها وأشكالها وتفاصيلها. وأشار باعشن إلى أن أميركا استطاعت تطوير أنواع من الاستثمارات في فوائض أوقافها وجمعياتها ومؤسساتها الخيرية المتقدمة من حيث آليات التسجيل وآليات صرف أموالها، حتى وصل نموها إلى 1.5 في المائة، أما في المملكة المتحدة التي شهدت ارتفاعا كبيرا في نسبة النمو فقد وصل حجم أصول بعض الجمعيات الخيرية في سنة من السنوات إلى 21 مليار جنيه إسترليني، وهو ما يعادل مليارات الريالات السعودية ويوجد مثلها في آسيا، التي تبرز فيها كل من هونغ كونغ واليابان اللتان تعتبران أحد أكبر الأمثلة على النجاحات التي تحققت في هذا المجال، ثم ماليزيا وهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي اهتمت وقامت بممارسته.

وقال في هذا السياق: «نحن في حاجة إلى هذه الفكرة المرنة لإدارة الأصول الخيرية بطريقة احترافية استثمارية تدر عائدا دائما لا ينضب لصرفه في الجهات الخيرية المحددة، ذلك أن هذا النموذج مثالي ويجب أن تقوم المصارف الإسلامية بتطويره لكونه استثمارا يقوم على قاعدة اجتماعية أخلاقية تحرم استثمار الأموال في صناعات أو مجالات محددة كالخمور والتبغ، وفي المقابل تحدد لها قائمة من المجالات والنشاطات للاستثمار فيها، وهي جميعها نشاطات تخدم المجتمع والبيئة».

وقال: «يتعلق الاستثمار في الوقف وأموال العمال الخيرية بالأمانة، وهو ما يجعله يتضمن إضافة إلى القطاع الخيري، مواضيع أخرى تتصل بالعقود وصيغ التمويل، وهو ما يتطلب منا إيجاد آليات تساعد على حسن إدارة الأموال»، حيث يساعد ذلك بحسب رأيه في تحقيق نقلة كبيرة جدا في مجال المصرفية والتمويل الإسلامي بصفة عامة، وذلك بوجود البيئة التنظيمية المساندة، سواء كانت في الأنظمة أو في المؤسسات المساعدة على مراقبة حسن إدارة الأموال.