الصكوك الإسلامية تثير جدلا فقهيا حول ضمان أرباحها بين صيغة الالتزام والتعهد

توصيات بتقديم دورات متخصصة في محاسبة الزكاة للفقهاء.. والفقه للمحاسبين

جانب من فعاليات ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي التي اختتمت أعمالها الجمعة الماضي في جدة (تصوير: سلمان مرزوقي)
TT

أثارت الصكوك الإسلامية جدلا كبيرا واختلافا واسعا في أولى جلسات ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي، التي اختتمت أعمالها في مدينة جدة السعودية نهاية الأسبوع الماضي؛ حيث شهدت محاور الجلسة تباينا كبيرا بين آراء نخبة من العلماء حول ضمان رأس المال أو مقدار محدد من الأرباح في صيغتي الالتزام والتعهد.

وعلى الرغم من الاختلاف حول نسبية جواز ضمان مصدر الصكوك لقيمة صك رأس المال من عدمه، أو حتى ضمان مقدار محدد من الأرباح سواء أكان ذلك في صيغة التزام أم تعهد أم وعد ملزم من عدمه وكيفية التعامل معه، فإن المشاركين أجمعوا على أنه لا يجوز لمصدر الصكوك أن يضمن رأسمال الصك أو ربحا محددا سواء أكان ذلك بالتزام أم تعهد أم وعد ملزم، كما لا يجوز التعهد من مصدر الصكوك ومديرها بشراء أصل الصكوك أو استبدالها بالقيمة الاسمية عند إطفائها؛ لأن ذلك يؤول إلى الضمان في حالة هبوط القيمة، ولو لم تتعرض أصول الصكوك للتلف الكلي أو الجزئي، ويختلف الحال عن تعهد الأمر بالشراء في المرابحة بشراء المبيع ولو هبطت قيمته؛ لأن البيع يختلف عن المشاركة من حيث الضمان.

وأكد الجميع أن أهم ما يميز الصكوك عن السندات كونها تمثل حصة شائعة في أعيان أو منافع أو خدمات أو مزيج منها، وعليه فإن تحقق هذه الملكية بكل مقتضياتها من الغنم والغرم، وانتفاء ما يتعارض مع تحققها من مظاهر الصورية وسماتها، من الأهمية بمكان.

أمام ذلك، قال الدكتور أحمد محيي الدين، مدير إدارة التطوير والبحوث في مجموعة البركة المصرفية والمدير التنفيذي لندوة البركة، لـ«الشرق الأوسط»: إن النقاش كان قويا؛ لأن اختلاف وجهات النظر كان كبيرا، مؤكدا أن الصورة العامة تدل على أن الموضوع أثري من ناحيتي النقاش والأبحاث، والنواحي العملية، مبينا، في الوقت ذاته، أن التوصيات في موضوع الصكوك كانت قطعية وإيجابية.

وأضاف الدكتور محيي الدين أن هناك توصية بأن ما اختلف عليه يستدعي الاجتماع لكي يحاول المشاركون إيجاد حل وسط يحفظ للصكوك شرعيتها وسلامتها، ويمكن البنوك الإسلامية من التوسع في مجال الصكوك. وقال: إن الندوة استقطبت هذا العام الكثير من العاملين في مجال الصيرفة الإسلامية بشكل عام والمتخصصين في المواضيع المطروحة للنقاش وعددا كبيرا جدا من العلماء والمتخصصين والإعلاميين والمتابعين للشأن العام، في حين أن البحوث مركزة وتناولت القضايا العملية المطروحة للنقاش، وبعدت بقدر الإمكان عن التنظير، غير أننا طلبنا، في خطاب الاستكتاب، أن تكون المشاركات مركزة على المواضيع الرئيسية، في حين أن المناقشات التي عقبت كل ورقة حضرها مختصون يديرون هذه الأعمال، مما جعل في مداخلاتهم إضافات فنية، وتفصيلية، وفيها أمثلة عملية ترجح رأي بعض الفقهاء دون الآخرين تؤيد هذا أو تعارض ذاك.

وشددت ندوة البركة، التي ركزت خلال دورتها الـ32 لهذا العام على الصكوك الإسلامية، على أن تشتمل وثائق الإصدار للصكوك على قرار شرعي من هيئة الرقابة الشرعية التي درستها وقررت شرعيتها على أن يتضمن الضوابط الشرعية لإصدار الصكوك وتداولها واستردادها وإطفائها والنص في تلك الوثائق على أن ما يخالف الضوابط الشرعية يعتبر باطلا عديم الأثر.

كما أوصت ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي بعقد ورشة عمل تضم ذوي العلاقة بإصدار الصكوك من الشرعيين والقانونيين والمصرفيين والمراجعين الخارجيين وممثلين لوكالات التصنيف والجهات الرقابية الإشرافية، وذلك بقصد توحيد قواعد وضوابط إصدار الصكوك وتداولها واستردادها وإطفائها.

وتوصل المتناقشون إلى جواز أن يضمن الإصدار طرف ثالث مستقل، شريطة أن يكون ذلك دون مقابل، وأن يكون الطرف الثالث الضامن مستقلا استقلالا كاملا وحقيقيا عن المصدر، بعد أن تناول بحثا للدكتور حسين حامد حسان والدكتور حامد حسن ميرة حول إصدار الصكوك بمراعاة المقاصد والمآلات وملكية حملتها وضماناتها.

وبعد نقاش كبير، اتفق المشاركون على وجوب انتفاء كل ما يخل بملكية حملة الصكوك للموجودات التي تمثلها وتجنب الصورية مثل أن يكون محل الصكوك أصولا يمتنع تملك حملة الصكوك لها قانونا أو عرفا، أو أن تتم المبالغة في تقويم الصكوك، أو أن تشتمل صياغة نشرة الإصدار أو مستنداته على نصوص تحول دون النقل الحقيقي لملكية الأصول من مصدر الصكوك إلى حملتها أو من يمثلهم بعيدا عن جهة الإصدار أو إبقاء الأصول مسجلة في القوائم المالية للجهة المصدرة للصكوك.

وعن البحث الذي قدمه يوسف الشبيلي والدكتور صالح الفوزان حول زكاة المال العام (شرطا الملك والنماء وأثرهما في مال الضمار وديون المؤسسات)، أجمع المشاركون على أنه لا تجب الزكاة في الأموال العامة كأموال الدولة حتى لو كانت مستثمرة من خلال شركات مملوكة للدولة بالكامل، أو المشاركة في شركات القطاع الخاص؛ لأنه مال عام ليس له مالك معين.

وخلص المشاركون في هذه الجلسة إلى أن الديون المشكوك في تحصيلها إذا دلت القرائن على أنها غير مرجوة فإنها تعامل معاملة الدين على غير المليء فلا تجب زكاتها، وإذا قبضت يستأنف بها حول جديد، إضافة إلى توصيتهم بأن تمام الملك يعتبر من أهم شروط وجوب الزكاة، ولا بد فيه من استقرار الملك والتمكن من التصرف أو الانتفاع أو التنمية.

كما أوصى المشاركون بضرورة التنسيق بين المؤسسات الحكومية المختصة بجمع الزكاة وصرفها وتقديم الدراسات والاستشارات المتخصصة لهذه الجهات وفق الأسس العلمية المعتمدة، وأن يكون ذلك عبر التعاون المباشر أو توقيع مذكرات التفاهم واتفاقيات التعاون مع المؤسسات الأكاديمية والمراكز والهيئات المتخصصة.

واختلف المشاركون في تزكية المال العام، ويراد به أموال ومؤسسات الدولة، فذهب بعضهم إلى أنه لا يزكى دون تفريق بين ما يستثمر منه أو لا يستثمر، وأن ذلك هو الأصل الذي جرى عليه العمل، وذهب بعضهم إلى أن المال العام إذا استثمر في شركات غير مملوكة للدولة كليا فإنه تجب الزكاة فيه، أما ما ليس مستثمرا أصلا، أو ما استثمر في شركات أو مؤسسات مملوكة كليا للدولة، فلا تجب الزكاة فيه.

وخلص المشاركون إلى أن المراد بالملك التام المشترط لوجوب الزكاة ما كان مستقرا مع التمكن من تنمية المال، ويكفي الحد الأدنى من تمام الملك مثل المال الممنوع من التصرف فيه بسبب وجود قيود قانونية أو اتفاقية التصرف بوجه ما بحيث يتحقق النماء، ومن تطبيقات ذلك: المال المستثمر في أسهم الشركات؛ حيث لا يتاح للمساهم التصرف في موجوداتها لتعلق حقوق الشركاء، والودائع المحجوزة على سبيل الضمان، والأموال المرهونة بالديون، فهذه الأموال تزكى في حال القدرة على النماء.

كما توصل المشاركون إلى أن المال الضمار، وهو الغائب عن مالكه ولا يرجى عوده، ومنه الديون المشكوك في تحصيلها، لا يزكى إلا بعد قبضه، فيضم إلى أموال المؤسسة في الحول والنصاب ويزكى عن ذلك الحول فقط ولو مر عليه.

وأوصت الندوة بالتنسيق بين الفقهاء والمتخصصين في المحاسبة بمواصلة دراسة نوازل الزكاة، والعمل على تجسير العلاقة بين الطرفين بتنظيم اللقاءات والفعاليات العلمية المشتركة، وتقديم المراكز المتخصصة دورات في محاسبة الزكاة للفقهاء، ودورات في فقه الزكاة للمحاسبين، ومراعاة ذلك في الجامعات والمعاهد والمؤسسات الأكاديمية والحكومية.

أما فيما يتعلق بجلسة التأمين على الودائع والاستثمارات والصكوك والتعامل مع مؤسسات الضمان، فقد دعا المشاركون إلى إيجاد آليات تتناسب مع تغطية مخاطر الاستثمارات بما فيها الصكوك، كما دعوا الدول المرخصة للمؤسسات المالية الإسلامية للتوسع في إيجاد مؤسسات الضمان التكافلية الحكومية والخاصة ودعمها، أو قيام الدولة نفسها بالضمان المباشر على مبدأ ضمان الطرف الثالث المقبول شرعا.

وعن تطهير المكاسب المحرمة، أكدت الندوة أن التطهير على المالك المستثمر أو المتاجر حين نهاية الفترة المالية وأنه لا يتوقف على تحقق أو توزيع الربح، ولا يلزم الوسيط أو الوكيل أو المدير عن المقابل المأخوذ نظير عمله، وأن ما يظهر هو ما يخص الإيراد المحرم، وعدم جواز انتفاع المالك بالعنصر المحرم، وأن مسؤولية التطهير على المؤسسة في حال تعاملها لنفسها أو في حال إدارتها، دون حالة الوساطة، فيقتصر دورها على إخبار المالك ومساعدته في التطهير.

وأوضح المشاركون أن الأصل في تطهير المكاسب المحرمة يكون عند قبضها، ولكن بالنسبة للمؤسسات التي تجري المحاسبة أو المراجعة على فترات دورية «فصلية أو نصف سنوية»، فإن موعد التطهير هو نهاية الفترة المختارة، مبينين أن المبالغ الواجب تجنبها لصرفها في الخيرات إذا تأخر صرفها، وهي عادة تستثمر في المؤسسات المالية، فإنه يجب ضم عائد استثمارها كله إلى أصل المبالغ ويصرفان معا في وجوه الخير.

يُذكر أن الندوة، التي تنظم بصفة سنوية في شهر رمضان من كل عام، تعرض بعض المسائل المصرفية المستجدة والتعرض لها بالبحث والمناقشة من الناحيتين الشرعية والفنية من قبل نخبة من العلماء والفقهاء المعروفين على الصعيدين الإسلامي والدولي، بالإضافة إلى مجموعة من الخبراء في مجال المال والأعمال والمصرفية والتمويل الإسلامي، بهدف الاتفاق على مجموعة من التوصيات والفتاوى التي تسهم في إثراء العمل المصرفي الإسلامي وترشده، وتطرح حلولا ناجحة للمشكلات التي تواجه التطبيق العملي لها.

وأصبحت الفتاوى والتوصيات، التي تصدر عن الندوة، مرجعا علميا، وقاعدة بيانات ومعلومات تسترشد بها الأبحاث والفتاوى الصادرة عن الهيئات الشرعية للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، والمجامع الفقهية، والهيئات والمنظمات المختلفة في سائر أنحاء المعمورة؛ حيث تستند معظم قرارات وتوصيات الهيئات الشرعية والمجامع الفقهية والهيئات والمنظمات المختلفة إلى تلك الثروة من الفتاوى والتوصيات، كما تعتبر قاعدة ومنطلقا ومعينا لتأسيس كثير من منشآت ومنظمات الأعمال الإسلامية. كما أسهمت ندوة البركة، التي تنظم في شهر رمضان من كل عام، على مدى 32 عاما، في تذليل كثير من الصعوبات التي تواجه عمل الهيئات الشرعية، إلى جانب تقريب وجهات النظر بين العلماء أنفسهم وبين البنوك والعلماء، كما وثقت الندوة الكثير من البحوث والندوات والفتاوى الصادرة عنها في كتب ومجلدات، يستفيد منها جيل الشباب من خريجي الشريعة أو ممن لديه الرغبة في الالتحاق بالعمل المصرفي الإسلامي.