د. معبد الجارحي: المزج بين التمويل بالمضاربة والوكالة ضرورة تدرأ المخاطر

الرئيس السابق للجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي لـ «الشرق الأوسط»: التمويل الإسلامي أكثر قدرة على تحقيق الكفاءة من التمويل التقليدي

الخبير المصرفي الدكتور معبد الجارحي الرئيس السباق للجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي
TT

شدد خبير مصرفي بارز، على التعامل الاقتصادي غير الأخلاقي، يحرم الأفراد والمجتمعات من سبع ميزات اقتصادية مهمة للتمويل الإسلامي، منها عدم تشجيع المتعاملين لتعظيم دخولهم من الفوائد، بإحلال الموارد الحقيقية محل النقود في التبادل، الأمر الذي يخفض الإنتاج ويودي بالكفاءة الاقتصادية، مؤكدا أن مؤسسة التمويل الإسلامي أكثر قدرة على تحقيق الكفاءة، واصفا إياها بأنها أفضل أداة للتنمية الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وقال الخبير المصرفي الدكتور معبد الجارحي الرئيس السباق للجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي لـ«الشرق الأوسط»: «إن مؤسسة التمويل الإسلامي أكثر استقرارا، لأنها لا تضمن سداد الأصل والفائدة في جانب المطلوبات كما تفعل مؤسسات التمويل التقليدي، وبذلك لا تؤدي الاهتزازات في جانب الموجودات إلى اهتزازات موازية في جانب المطلوبات، تعصف بمؤسسة التمويل».

كذلك فإن الديون الناتجة عن التمويل الإسلامي يقابلها تسليم سلع وخدمات، وهي ليست قابلة للزيادة ولا للتداول، «ولذلك ليس لدينا سوق منظمة للديون تكون مصدرا للاختلالات الناجمة عن انتقال رؤوس الأموال الساخنة، وناقلة للعدوى من بلد لآخر. كما أن التمويل الإسلامي لا يعرّض الاقتصاد للتضخم، لأنه يمول العرض والطلب بالتوازي»، مشيرا إلى أن التمويل الإسلامي يقدم في غالبه مشاركات أو سلعا وخدمات، ولا يقدم أموالا للمقترضين، إضافة إلى أن التمويل التقليدي يشبه مباريات النظارة، مثل كرة القدم، حيث تنشط مجموعة قليلة من اللاعبين المحترفين، بينما يكتفي الحشد من النظارة بالمتابعة من الخارج. وهذا يجعل الاقتصاد مفككا وقابلا للانهيار، أما التمويل الإسلامي، فهو أقرب للمباريات الجماعية أو التشاركية، مثل مسابقات الجري الجماعية، حيث يشارك كل فرد في اللعب، ولا يهتم أحد بمجرد المشاهدة. مما يجعل الاقتصاد متماسكا كالبنيان المرصوص.

وأوضح أن الاقتصاديين الإسلاميين ساهموا في إخراج علم الاقتصاد من قوقعة الفردية والأنانية إلى رحاب العلوم الاجتماعية، وانتقدوا المعالجة السطحية للأزمة المالية العالمية، التي يعود منبعها إلى التمويل بالقرض، أي بتجارة النقود، وإلى تحول الأسواق المالية إلى موائد للقمار، مبينا أن معالجة الإعسار لا تكون بضخ الأموال في البنوك لمنعها من الانهيار والتي اكتنزت الأموال دون إقراضها، خوفا من تزايد المخاطر، فتفاقم الكساد، ولكن تكون بمساعدة المعسرين على سداد مستحقاتهم للبنوك، بحيث يستمرون في الإنتاج والكسب والإنفاق، فلا يصاب الاقتصاد بالركود.

وأكد الرئيس السابق للجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي أن أهم ما ركزت عليه الجمعية هو ترسيخ مفهوم الأخلاقيات الاقتصادية، من خلال تأسيس فرع جديد في الاقتصاد هو الاقتصاد الإسلامي، ليقدم تحليلا متكاملا لمآلات الالتزام بالشريعة ومقتضياتها، التي هي بناء أخلاقي يعتمد على الإيمان قبل كل شيء، وعلى البناء المؤسسي للنظام الاقتصادي الإسلامي. وأوضح أن الاقتصاد ينقسم من حيث المنهجية إلى مدرستين فكريتين، الأولى المدرسة التجريدية التي تدعي وجوب ابتعاد التحليل عن الجوانب الأخلاقية، ليأتي مجردا، دون تحيز، مبينا أن الأخلاقيات تأتي عند وضع السياسات الاقتصادية فقط، موضحا أن التحليل التجريدي ينبني على افتراض حرية الأسواق وحرية العمل، وتعظيم المنفعة، وبالتالي تعظيم الربح، أي افتراض إنسان نفعي أناني. وقال الجارحي في هذا الصدد: «لقد سمعت كينيث بولدنغ وهو يقول إنه لا يقبل أن يزوج ابنته لرجل بتلك الأخلاق. أي أن الاقتصاد التجريدي لم يكن مجردا من الأحكام الأخلاقية منذ البداية، بل تبنى القيم النفعية والأنانية، التي تؤدي إلى الصراع والتناحر، مع الغنى الفاحش من ناحية والفقر المدقع من ناحية أخرى».

أما المدرسة الأخلاقية الثانية وفق الجارحي على رأسها جون روبنسن وكينيث آرو، تقول باستحالة عزل التحليل عن الأخلاق، لأن الاقتصاد علم اجتماعي، يبحث سلوك الأفراد تجاه ظاهرة الندرة، وعلى ذلك، فإن السلوك البشري لا يمكن فصله عن دوافعه وحدود الأخلاقية، مشيرا إلى أن الاقتصاديين الإسلاميين وجدوا أنفسهم منذ البداية في هذا المعسكر، ورضوا به دون غضاضة.

وقال: «من الطريف أن الاقتصادي النيوزيلندي جيمس آلفي، يذكرنا بأن الاقتصاد بدأ جزءا من فلسفة الأخلاق، ويعيد تفسير آدم سميث والاقتصاديين قبل القرن العشرين، كدعاة للاقتصاد الأخلاقي، ويصف تنصل الاقتصاديين خلال القرن العشرين من الأخلاقيات بأنه لا يتسق مع تاريخ هذا العلم، ولا تطوره الطبيعي. بل هو محاولة للتشبه بالعلوم الطبيعية والنسج على منوالها في استخدام الرياضيات. على الرغم من أنها تعنى بالمادة وليس بسلوك البشر».

وكمثال لارتباط الاقتصاد بالأخلاق، يشير جاكلين بست ووسلي ويدماير إلى تقسيمه إلى فرعين: جزئي وكلي، يتم في الأول التركيز في التحليل على مصلحة الفرد، وفي الثاني على مصلحة المجتمع. كما أن التحليل الكلاسيكي يركز على مصلحة الفرد والدولة منفردة، بينما يركز التحليل الكينزي على السياسات التي تعزز المصالح الاجتماعية بصورة تجعلها تفوق مجموع مصالح الأفراد.

وأضاف أن عددا من الاقتصاديين المحدثين تصدوا لتغييب الأخلاقيات من التحليل، مبينا أن بعضهم ابتدع مقاييس كمية للعوامل الأخلاقية، ومن أمثلتهم جوزيف أيزنهاور، بل عمدوا إلى وضع نماذج للسلوك الاقتصادي تشمل الجوانب الأخلاقية، مثل فرايتاس وواجنر. وتتركز منهجية الاقتصاد الإسلامي، وفق الجارحي، على تقديم التحليل الاقتصادي في ظل الالتزام بالأحكام الأخلاقية المستمدة من الشريعة، كما صاغها الفقهاء السابقون، أمثال القاضي أبي يوسف، وابن عابدين، والشاطبي، وابن تيمية، والغزالي، والتي استنبطوها من مؤسسي المذاهب الفقهية.

وقال الجارحي: «من التحليل الاقتصادي والمرتبط بالأخلاقية الإسلامية، ما كتب في مجال اقتصاديات النقد والمال. فبالإضافة إلى أن المسلمين كانوا يعتقدون وفقا لدينهم أن الإقراض بالفائدة فيه ظلم كبير للفرد والمجتمع، جاء الاقتصاديون الإسلاميون ليفصلوا ذلك بالتحليل، وليضعوا المبررات الاقتصادية للسلوك الأخلاقي». وأكد أن التعامل على غير القوانين الإسلامية يعتبر تعاملا غير أخلاقي، لأسباب اقتصادية بحتة، فهو يحرم الأفراد والمجتمعات من سبع ميزات اقتصادية مهمة للتمويل الإسلامي، أوجزها في عدد من الميزات، الميزة الأولى أن التمويل الإسلامي، بخلاف التمويل الربوي، لا يشجع المتعاملين لتعظيم دخولهم من الفوائد، بإحلال الموارد الحقيقية محل النقود في التبادل، الأمر الذي يخفض الإنتاج ويودي بالكفاءة الاقتصادية. أي أن التمويل الإسلامي أكثر قدرة على تحقيق الكفاءة.

والثانية، أن مؤسسة التمويل الإسلامي أكثر استقرارا، لأنها لا تضمن سداد الأصل والفائدة في جانب المطلوبات كما تفعل مؤسسات التمويل التقليدي، وبذلك لا تؤدي الاهتزازات في جانب الموجودات إلى اهتزازات موازية في جانب المطلوبات، تعصف بمؤسسة التمويل.

والثالثة، أن الديون الناتجة عن التمويل الإسلامي يقابلها تسليم سلع وخدمات، وهي ليست قابلة للزيادة ولا للتداول. ولذلك ليس لدينا سوق منظمة للديون تكون مصدرا للاختلالات الناجمة عن انتقال رؤوس الأموال الساخنة، وناقلة للعدوى من بلد لآخر. كما أن التمويل الإسلامي لا يعرض الاقتصاد للتضخم، لأنه يمول العرض والطلب بالتوازي.

والرابعة، أن التمويل الإسلامي يقدم في غالبه مشاركات أو سلعا وخدمات، ولا يقدم أموالا للمقترضين، فهو إذن أقل عرضة من التمويل التقليدي لمخاطر سوء الاختيار والنزوع السيئ، ويستثنى من ذلك التمويل بالمضاربة والوكالة، حيث لا بد من المزج بينهما وبين غيرهما من العقود، درءا للمخاطر.

والخامسة، أن التمويل التقليدي يشبه مباريات النظارة، مثل كرة القدم، حيث تنشط مجموعة قليلة من اللاعبين المحترفين، بينما يكتفي الحشد من النظارة بالمتابعة من الخارج. وهذا يجعل الاقتصاد مفككا وقابلا للانهيار، أما التمويل الإسلامي، فهو أقرب للمباريات الجماعية أو التشاركية، مثل مسابقات الجري الجماعية، حيث يشارك كل فرد في اللعب، ولا يهتم أحد بمجرد المشاهدة، مما يجعل الاقتصاد متماسكا كالبنيان المرصوص.

والسادسة، أن التمويل الإسلامي يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية مباشرة بتحصيل الزكاة على أموال للمساهمين، وتوجيهها إلى إعانة المعوزين. كما أن البنوك الإسلامية تقف مستعدة لأن تكون مستودعا للزكاة، وموكلة بإنفاقها لتكوين مشاريع فردية صغيرة تملك للفقير، فتصبح أداة للتنمية الاقتصادية، ولتحقيق العدالة الاجتماعية.

والسابعة، أن التمويل الإسلامي أكثر قدرة على الاستمرار، لأن الديون الناجمة عنه تُثَبَّت قيمتها وقت حصول التمويل، ولا تفرض عليها رسوم تأخيرية عند الإعسار، بل تعاد جدولتها دون زيادة. بعكس الديون الربوية، التي تتزايد بقيمة الفوائد المركبة، وتضاف عليها الفوائد التأخيرية الباهظة، مما يدفع المدين إلى طلب العون أو الإفلاس.

ولما كانت النقود بحق مؤسسة اجتماعية، يعود الفضل في وجودها للقبول العام الذي يضفيه عليها أفراد المجتمع، فإنه لا يحق أخلاقيا ولا منطقيا أن يقوم شخص بإقراضها لآخر مقابل سعر فائدة، كما لا يجوز أن تسمح السلطات النقدية للمصارف بتوليدها ثم إقراضها في ظل نظام الاحتياطي الجزئي، لأن في ذلك مصادرة لحق المجتمع لصالح المساهمين في البنوك.

وعاد الجارحي فأوضح أن الاقتصاديين الإسلاميين ساهموا في إخراج علم الاقتصاد من قوقعة الفردية والأنانية إلى رحاب العلوم الاجتماعية، حيث الأخلاقيات أرفع مكانا. إذ إنهم يستقون المقاصد الاقتصادية أولا من الإسلام ليدخلوها في التحليل الكلي، ومن ثم يربطونها بالسلوك البشري في التحليل الجزئي، على عكس ما يقوم به الاقتصاديون التقليديون، من البدء بمقاصد فردية وأنانية في التحليل الجزئي، ثم ربطها بالتحليل الكلي.

وأكد أن الاقتصاديين الإسلاميين انتقدوا المعالجة السطحية للأزمة المالية العالمية، التي يعود منبعها إلى التمويل بالقرض، أي بتجارة النقود، وإلى تحول الأسواق المالية إلى موائد للقمار.

كما أن معالجة الإعسار لا تكون بضخ الأموال في البنوك لمنعها من الانهيار والتي اكتنزت الأموال دون إقراضها، خوفا من تزايد المخاطر، فتفاقم الكساد، ولكن تكون بمساعدة المعسرين على سداد مستحقاتهم للبنوك، بحيث يستمرون في الإنتاج والكسب والإنفاق، فلا يصاب الاقتصاد بالركود.

وبدلا من إعادة البناء على أسس جريئة وجديدة، تخلص النظام المصرفي من التعامل بالفائدة غير الشرعية، وتُعيد الأسواق المالية إلى وظيفتها الأساسية في تقديم التمويل لمنشآت الأعمال، يكتفي الغرب بتشديد الرقابة، والتضييق المحدود للإقراض، مفوتين بذلك فرصة تاريخية لإصلاح النظام النقدي العالمي.

وخلص الجارحي إلى أن علم الاقتصاد بدأ في إطار العلوم الاجتماعية غير مجرد من الأخلاقيات، ثم جرت محاولات طويلة لفصله عنها، ولكنها لم تحقق التجرد المطلق، بل التزمت بالأخلاقيات النفعية والأنانية. وأن هناك اقتصاديين يعملون على استعادة المبادئ الأخلاقية في التحليل، ويقدم الاقتصاديون الإسلاميون نموذجا فذا في بناء التحليل الاقتصادي على المبادئ الأخلاقية الإسلامية.

وإذا كان لعلماء الشريعة قصبُ السبق في بيان القواعد الأخلاقية للتمويل الإسلامي، فإن الاقتصاديين الإسلاميين، من خلال التحليل الاقتصادي، وفق الجارحي، يقدمون أمثلة كثيرة للمعاملات المعيبة أخلاقيا، بناء على المآلات الاقتصادية، ومثال ذلك، المعاملة في المحرمات على الإطلاق، والمعاملة التي تنتهي ببيع نقد بنقد، كالتورق والعينة، لأنها تحايل على تحريم الفائدة غير الشرعية، وبيع الديون النقدية بغير قيمتها الاسمية، لأنه بيع نقد بنقد، وتمويل شراء الأوراق المالية، لغرض المضاربات وليس لغرض الاستثمار، لأنها تضر باستقرار الاقتصاد الكلي.

كذلك تقديم تمويل يفوق طاقة المتمول على السداد، لأنه يوقعه في مديونية لا خروج منها، التمويل الذي يشجع على الإغراق في الاستهلاك والإسراف والترف، وتمويل الكماليات قبل استيفاء الحاجيات الأساسية، وأخيرا تمويل كل ما يضر بالكائنات الحية وبالبيئة.

وبصفة عامة، يعطي الاقتصاديون الإسلاميون الأولوية لصحة الغرض قبل صحة الشكل، ويعملون على توضيح المقاصد الاقتصادية للفقهاء المعاصرين، لكي يأتي التمويل الإسلامي في أفضل ثوب أخلاقي قشيب.