خبراء ماليون: إهمال جانب التصميم الهندسي المالي يفقد المصرفية الإسلامية كفاءتها

الهندسة المالية الإسلامية.. بين المفهوم والمصطلح ضاع التطبيق

TT

عزا عدد من خبراء المصرفية الإسلامية بطء سير المنتجات والأدوات المالية الإسلامية مقارنة بنظيرتها التقليدية، إلى عدم قدرة القائمين على صناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي على إنجاز الكثير في مسألة تحقيق القدر المطلوب من الكفاءة الاقتصادية والمصرفية المتسمة بالشفافية المرتبطة بمطابقتها للقوانين الإسلامية، والتي ينبغي أن تكون عليها، في الوقت الذي تحاول فيها المهنية والاحترافية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الانهيارات التي تصيب المصرفية التقليدية، بسبب تعرية الأزمة المالية العالمية لسوءتها.

وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «إن القائمين على أمر صناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي، وكافة المؤسسات المالية والمصارف الإسلامية، تقاعسوا عن دورهم المطلوب في الاهتمام بالرؤية الهندسية المالية التي من شأنها إنقاذ التمويل الإسلامي من مشكلاته التي ما زال يعاني منها، في الوقت الذي تروج فيه الكثير من المؤسسات المالية لمنتجات تقليدية على أنها إسلامية، في ظل غياب المصداقية والشفافية وعدم الكفاءة في المؤسسات المالية الإسلامية».

وفي هذا السياق، قال الخبير المالي الجزائري الدكتور عبد الكريم قندوز، أستاذ المالية بجامعة الملك فيصل بالسعودية، لـ«الشرق الأوسط»: «إن التقلبات في الأسعار، بما فيها أسعار السلع وأسعار الفائدة وأسعار العملات وأسعار الأسهم والسندات، التي أصبحت سمة ملازمة للاقتصاديات المعاصرة، أدت إلى بروز مفهوم جديد في عالم المال والأعمال، وهو مفهوم الهندسة المالية».

وأوضح أن التعريفات الاصطلاحية لهذا المفهوم تعددت وتنوعت بين من يرى أنها تعني مجموع تقنيات التحوط وإدارة المخاطر، ومن يرى أنها تعني الابتكار المالي، ومن يرى أنها يمكن أن تشمل أي عمل لحل مشاكل التمويل، مبينا في نفس الوقت أنه إذا كان مصطلح الهندسة المالية يعتبر حديثا، فإن الهندسة المالية كمفهوم قد وجدت منذ بروز الحاجات البشرية إلى التمويل.

وأكد أن العوامل التي ساهمت في انتشار الهندسة المالية بالإضافة إلى التقلبات التي تعرفها الاقتصاديات العالمية هي إدخال الحاسبات وتقنيات الاتصال أو ما يعرف بتكنولوجيا الإعلام والاتصال، مبينا أن الأخيرة ساعدت على تخفيض أوقات المعاملات وتكاليفها، مشيرا إلى أن تحديد معنى الهندسة المالية الإسلامية يعتبر أمرا مهما، وذلك من أجل استكمال المنظومة المعرفية لنظرية التمويل الإسلامية التي لا تزال بحاجة إلى تحديد الكثير من المفاهيم والمصطلحات.

وبرأي قندوز، فإن «الهندسة المالية» مفهوم قديم قدم التعاملات المالية، لكنه يبدو حديثا نسبيا من حيث المصطلح والتخصص، مبينا أن معظم تعاريف الهندسة المالية مستخلصة من وجهات نظر الباحثين الذين يطورون النماذج والنظريات، أو مصممي المنتجات المالية في المؤسسات المالية أو بالأسواق المالية.

ولفت إلى أن هناك مجموعة من التعاريف للهندسة المالية، منها تعريف فينرتي، الذي يشير إلى أن الهندسة المالية بتصميم وتطوير وتطبيق عمليات وأدوات مالية مستحدثة وتقديم حلول خلاقة ومبدعة للمشكلات المالية، فيما جاء تعريف الجمعية الدولية للمهندسين الماليين، بأن الهندسة المالية تتضمن التطوير والتطبيق المبتكر للنظرية المالية والأدوات المالية لإيجاد حلول للمشاكل المالية المعقدة ولاستغلال الفرص المالية. فالهندسة المالية ليست أداة، بل هي المهنة التي تستعمل الأدوات، علما أن الهندسة المالية تختلف عن التحليل المالي، فمصطلح «تحليل» يعني برأيه «تشتيت الشيء لفهمه»، أما مصطلح «هندسة» فيقصد به «بنية».

وانطلاقا مما سبق، وفق قندوز، فإن تعريف الهندسة المالية بأنها «التصميم، والتطوير، والتنفيذ، لأدوات وآليات مالية مبتكرة، والصياغة لحلول إبداعية لمشاكل التمويل»، وهو بذلك يشير إلى أن الهندسة المالية تتضمن ثلاثة أنواع من الأنشطة؛ أولها ابتكار أدوات مالية جديدة، مثل بطاقات الائتمان، وثانيها ابتكار آليات تمويلية جديدة من شأنها تخفيض التكاليف الإجرائية لأعمال قائمة، مثل التبادل من خلال الشبكة العالمية، وثالثها ابتكار حلول جديدة للإدارة التمويلية، مثل إدارة السيولة أو الديون، أو إعداد صيغ تمويلية لمشاريع معينة تلائم الظروف المحيطة بالمشروع. والابتكار المقصود ليس مجرد الاختلاف عن السائد، بل لا بد أن يكون هذا الاختلاف متميزا إلى درجة تحقيقه لمستوى أفضل من الكفاءة والمثالية. ولذا فلا بد أن تكون الأداة أو الآلية التمويلية المبتكرة تحقق ما لا تستطيع الأدوات والآليات السائدة تحقيقه. وعليه، يمكن إجمال مفهوم الصناعة المالية بأنها ابتكار لحلول مالية، فهي تركز على عنصر الابتكار والتجديد، كما أنها تقدم حلولا، فهي بذلك تلبي احتياجات قائمة أو تستغل فرصا أو موارد معطلة. وكونها مالية يحدد مجال الابتكار في الأنشطة الاقتصادية، سواء في التبادل أو التمويل.

ومع أن الباحث في مجال التمويل الإسلامي لا يجد أي إشارة إلى هذا المصطلح، الذي يعتبر حديثا حتى في نظرية التمويل التقليدية، كما أشار قندوز سابقا، غير أنه وانطلاقا من التعريف السابق للهندسة المالية استطاع الخروج بتعريف لمصطلح «هندسة مالية إسلامية»، حيث يمكن تعريفها على أنها «مجموعة الأنشطة التي تتضمن عمليات التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة، إضافة إلى صياغة حلول إبداعية لمشاكل التمويل وكل ذلك في إطار توجيهات الشرع الإسلامي».

ولفت إلى أن الهندسة المالية كمفهوم ظلت موجودة منذ القدم، فالمخارج الفقهية التي اقترحها رواد المذاهب الفقهية في محاولة التيسير على المسلمين في تعاقداتهم المالية وفقا لضوابط الشرع الإسلامي لا تخرج عن دائرة «الهندسة المالية الإسلامية»، بل يمكن إرجاعها، وفق قندوز، حتى إلى عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلال توجيهاته للصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، حول معاملاتهم المالية بشكل لا يخل بالكفاءة الاقتصادية للمعاملة مع مراعاة الجانب الشرعي للمعاملة، ولعل من أمثلتها توجيهه لبلال المازني عندما أراد أن يبادل التمر الجيد بالتمر الرديء، فقال له: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبا»، في إشارة لأهمية البحث عن حلول تلبي الحاجات الاقتصادية دون إخلال بالأحكام الشرعية.

من ناحيته، أوضح الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن باعشن، أنه حتى الآن لم يلح في الأفق ما يشير إلى أعمال ورش عمل تهتم بصناعة هندسة مالية إسلامية حقيقية، في الوقت الذي تستعين فيه المصرفية والمؤسسات المالية التقليدية بالاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في صقل تجربتها ومهنيتها لاقتحام عالم عولمة الاقتصاد المعرفي بأحدث ما أنتجته تكنولوجيا العصر، والذي أكسبها كفاءة أكثر على الانفتاح على الأسواق المالية العالمية في وجه المصرفية الإسلامية.

وأضاف أن هذا الواقع خلق وضعا تنافسيا لصالح المصرفية التقليدية، بحكم قدرتها على إحسان استثمار الفرص المتاحة، ما يلقي بعبء كبير على القائمين والمهتمين بصناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي لأن يبذلا جهدا كبيرا لتحسين وضع المنتجات الإسلامية وتطويرها من خلال تصميم هندسة مالية كفؤة متوافقة مع الشريعة الإسلامية.

وزاد باعشن أن هناك حاجة لتأسيس مرجعية لصناعة المصرفية الإسلامية تتألف من كافة الكيانات والجمعيات والمؤسسات التي تولي هذه الصناعة وقتا وجهدا لتسويقها ونشرها، وفي أولها مجلس الخدمات المالية والإسلامية، والهيئة العمالية الإسلامية للاقتصاد والتمويل، والجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي.

ويرى أن هناك فرصة لمجلس الخدمات المالية الإسلامية بأن يتبنى دعوة شاملة لكل تلك هذه الجهات وغيرها، لبحث أسس هندسة المال الإسلامي واختيار الآلية المناسبة لتصميمها وتقييمها وكيفية إنزالها على أرض الواقع، وذلك للعمل على تطوير منتجات مالية إسلامية جديدة تتمتع بقدر كبير من المرونة والاستمرارية بفاعلية، مع ضرورة ابتكار الحلول المالية الكفؤة التي تواكب حاجة العصر وتتوافق مع الشريعة في نفس الوقت، مع قدرتها على استيعاب المستجدات في عالم التقنية والتكنولوجية في كل المجالات.

وحمل مجلس الخدمات المالية الإسلامية والهيئة العالمية الإسلامية للاقتصاد والتمويل الإسلامي والمؤسسات المالية الإسلامية، مسؤولية المحافظة على المكاسب التي تم تحقيقها حتى الآن، والبحث عن آليات مستحدثة لتطوير النظام المالي الإسلامي، بالشكل الذي يجعله ملتزما بتطبيقات الهندسة المالية الإسلامية مع ضرورة الاحتفاظ بمختلف الأدوات والمنتجات المالية المتنوعة التي من شأنها إكسابها القدرة على إدارتها بالشكل الذي يحقق لها الربحية المطلوبة، مع قدرتها على استيعاب متغيرات العمل الاقتصادي، والمنتجات الإسلامية.

أما الاقتصادي محمد الحمادي الذي وافق سابقيه فيما ذهبا إليه من حديث في مجال الهندسة المالية، فأوضح أن هناك الكثير من صيغ الاستثمار الإسلامية التي تنتظر فرصة الانضمام لبيئة حاضنة للهندسة المالية الإسلامية الرشيدة، مثل صكوك المقارضة، والاستصناع، والبيع الآجل، والسلم، والمضاربة، لكي تتجاوز المشكلات التي تنجم المخاطر التي تتعرض لها عمليات المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامية، سواء كانت تلك التي ناتجة عن عجز المدين، أو مماطلة الدين المليء أو عدم التزام طالب الشراء، أو المخاطر المتصلة بالسلع المستوردة.

وأشار الحمادي إلى أن مجال المشاريع الصغيرة والمتوسطة أكثر المجالات والأنشطة حاجة لهذا النوع من الهندسة المالية، وذلك من خلال توفير صيغ التمويل طويل الأجل خاصة سواء بالنسبة للحكومات الإسلامية أو حكومات الدول التي ترغب في أن يكون تمويل مشاريعها متوافقا مع الشريعة الإسلامية، سواء كان ذلك عن طريق المشاركة أو المضاربة والمرابحة، إلى غيرها من ضروب الصيغ الإسلامية التي تلتزم بالضوابط الشرعية ونظم المتابعة والرقابة.

وأوضح أن هناك حاجة ماسة لصياغة وتصميم هندسة مالية وفق رؤية علمية عملية لصناعة مصرفية إسلامية، تعمل باستراتيجية توازن فيها بين العرض والطلب من جهة، وتحقق في نفس الوقت الميزة التنافسية بشكل مقنع لدى عملاء نظيرتها التقليدية، مع ضرورة استبعاد كل المنتجات المالية الإسلامية التي يشوبها الكثير من اللغط حول موافقتها لتطبيقات الشريعة الإسلامية، داعيا الجهات المسؤولة لتبني تدريب قدرات اقتصادية ذات كفاءة تستوعب تطبيقات ما يسمى الهندسة المالية الإسلامية التي يقوم عليها أمر صناعة منتجات وأدوات مالية إسلامية حقيقية كفؤة.

ويعتقد الحمادي أن التوجه نحو هندسة المنتجات والأدوات الإسلامية من شأنه تحقيق شرطي المصداقية الشرعية والكفاءة الاقتصادية في آن معا، مبينا أن الهندسة المالية الإسلامية تحتاج إلى جدية ومصداقية وشفافية عالية من قبل المعنيين بها من أجل العمل على توفير العناصر التي من شأنها أن تساهم في تصميم أدواتها وعملياتها المالية وتطويرها ومن ثم تنفيذها بشكل مبتكر وجاذب، من خلال توسيع الفرص الاستثمارية في مشاركة المخاطر وتخفيض تكاليف المعاملات وتخفيض تكاليف الحصول على معلومات وعمولات الوساطة والسمسرة، مع ضرورة مواكبة متغيرات العصر في هذا الصدد.