الصيرفة الإسلامية مطلب شرعي

TT

كانت الأمة الإسلامية بجميع أطيافها تعاني من ويلات الربا وترزح تحت وطأته إلى فترة قريبة حيث لم يكن أمامها خيار سوى التعامل مع مؤسساته التي جلبها الاستعمار معه فكانت احدى أدواته لسلب خيرات الأمة وإضعاف اقتصادها وخلق تبعية دائمة لنظامه الرأسمالي، حتى تنادت عصبة من المؤمنين آمنت بصلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان وحملت على عاتقها إيجاد بديل لهذه المؤسسات الربوية يستمد أحكامه ونظمه من الشريعة الإسلامية السمحة فظهرت المصارف الإسلامية وخلال ثلاثين عاما سجلت هذه المصارف النجاح تلو النجاح واخترقت أسواقا كانت حصونا منيعة في وجهها إلى فترة قريبة. وسعى الغرب إلى خطب ودها بعد ان كانت في نظر الكثيرين مجرد حلم سرعان ما يفيق أصحابه من غفوتهم ويعودون إلى ارض الواقع، مستسلمين لأمره مقرين باستحالة وجود مصارف بدون ربا. ولكن الله خيب ظنهم ونصر دينه وأعلى شريعته، فلم يرق هذا الأمر لقلة ممن رأوا في هذا النصر هزيمة لهم ولِمَا كانوا يبشرون به فترة طويلة من فشل هذه التجربة ولما لم يكن لهم سبيل إلى الطعن في نجاح هذه التجربة من وجهة نظر اقتصادية شرعوا في البحث في بطون الكتب لعلهم يجدون فيها ما يطعنون به في شرعيتها فلم يجدوا إلا القول إن الأوراق النقدية ليست من الأصناف التي يجري فيها الربا، حيث أنها لا تقاس على الذهب والفضة لعدم وجود العلة الجامعة وساقوا لذلك أقولا لبعض أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في علة الربا في النقدين وأحكام الفلوس وغيرها من الأقوال التي لا يمكن التعويل عليها في العصر الحاضر بعد استقرار فتوى أهل العلم المعتبرين على اعتبار قيام النقود الورقية مقام الذهب والفضة. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ المعروف عند أهل العلم في الوقت الحاضر، انها (أي النقود) تقوم مقام النقدين (أي الذهب والفضة) لأنها جعلت قيما للمبيعات، وأثمانا لها تقوم مقامها في الربا. ووافقه سماحة الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ فبعد ان أورد قول من قال إن النقود تقاس على الفلوس، وان الفلوس عروض تجارة لا تجب فيها الزكاة إلا إذا أعدت للتجارة ولا يجري فيها الربا، قال رحمه الله لكن هذا القول لا أظن انه قدم عالما تستقر عليه، لما يلزم عليه من هذا اللازم الباطل. ألا ربا بين الناس اليوم لان غالب تعاملهم بالأوراق النقدية وألا زكاة على من يملك الملايين من هذه الأوراق ما لم يعدها للتجارة. وقال الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة «وربما كان الخلاف في أمر هذه الأوراق مقبولاً في بدء استعمالها، وعدم اطمئنان الجمهور إليها، شأن كل جديد أما الآن فالوضع تغير تمامًا. لقد أصبحت هذه الأوراق النقدية تحقق داخل كل دولة ما تحققه النقود المعدنية، وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك، إنها تدفع مهرًا، فتستباح بها الفروج شرعًا دون أي اعتراض. وتدفع ثمنًا، فتنقل ملكية السلعة إلى دافعها بلا جدال. وتدفع أجرًا للجهد البشري، فلا يمتنع عامل أو موظف من أخذها جزاء على عمله. وتدفع دية في القتل الخطأ أو شبه العمد، فتبرئ ذمة القاتل، ويرضى أولياء المقتول، وتسرق فيستحق سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد. ومعنى هذا كله: أن لها وظائف النقود الشرعية». كما صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي نص على أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضّة فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه ـ فضلاً ونَساء ـ كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضّة تماماً، باعتبار الثمنيّة في العملة الورقيّة قياساً عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقيّة أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها. وأما ما ساقه البعض عن الشيخ السعدي أن الربا لا يجري في النقود الورقية، فالصحيح ما ذكره الشيخ بن عثيمين عن شيخه السعدي، قائلا: «وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ يجوِّز ذلك (أي صرف النقود المعدنية بالورقية متفاضلا)، بل يجوز أكثر من هذا، فيرى أنه يجوز التفاضل مع تأخر القبض بشرط ألا يشترطا أجلاً معيناً، فلو أعطيتك مائة، وأعطيتني بعد مدة مائة عوضاً عنها أو أكثر، فإن ذلك لا بأس به بشرط ألا يُشترط الأجل، فيقول: أعطيتك مائة بمائة وعشرة إلى سنة، فإن هذا ممنوع عند شيخنا عبد الرحمن». وفي هذا رد على من ساق قول الشيخ عبد الرحمن ليعضد قوله بجواز ربا البنوك حيث ان شرط الزيادة مقابل الأجل من مسلمات القروض الربوية. وفي الحقيقة ان كل محايد يرى في موقف المتبنين لهذه الشبهة من الكتاب موقفا شخصيا ضد الصيرفة الإسلامية كما أسلفنا وليس طرحا علميا بناءً وإلا بماذا يفسر الموقف الحدي من القائلين بجريان الربا في النقد، وهم جمهور علماء هذا العصر مع ان قلة منهم من له علاقة بالصيرفة الإسلامية.

* مستشار في المصرفية الإسلامية