أزمة الرهن العقاري.. رؤية إسلامية

لاحم الناصر

د. صابر الحسن («الشرق الأوسط»)
TT

أزمة الرهن العقاري الأمريكي هي الحدث الأبرز في وسائل الإعلام العالمية هذه الأيام، حيث ما زالت توابع هذا الزلزال تفاجئ المراقبين بحدث مدوي كل يوم، فمن تأميم شركتي الرهن العقاري، «فاني ماي وفريدي ماك» إلى إفلاس مصرف «ليمان برذرز» والذي سجل بإفلاسه اكبر عملية إفلاس في التاريخ الأمريكي، إلى سيطرة الحكومة الأمريكية على 80 في المائة من شركة التأمين «إيه آي جي» مقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار لدعم سيولة الشركة. وآخر هذه التوابع ويبدو انه ليس آخرها انهيار بنك الإقراض العقاري «واشنطن ميوتشوال» الذي تم بيعه إلى بنك «جي بي مورغان» بعد ان سيطرت عليه المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع، وهي مؤسسة حكومية تقدم خدمة التأمين على ودائع العملاء لدى البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد نسفت هذه الازمة كثيرا من مبادئ الليبرالية الاقتصادية التي كانت تبشر بها أمريكا كما أنها أثبتت ان ترك الأمر لقوانين السوق دون أي ضبط ومراقبة يؤدي إلى كوارث تصيب الاقتصاد الكلي في مقتل نتيجة لبعض الرغبات الجامحة لدى بعض الرأسماليين الجشعين في الثراء الفاحش دون النظر في عواقب الأمور. وها هو العالم بأسره يقع اليوم ضحية لمقامرة البعض من تجار وول ستريت، حيث لا يمكن ان ينطبق أي وصف على الأسباب المنشأة لهذه الأزمة مهما تعددت، إلا أنها لا تعدوا ان تكون نوع من المقامرة شاركت فيها جميع الأطراف بدأ من واضعي السياسة النقدية، وهو مجلس الاحتياطي الفيدرالي وبيوت المال وانتهاء بالسماسرة والمقترضين. حيث شجع الاحتياطي الفيدرالي بتخفيضه سعر الفائدة لفترة طويلة رغبة منه في إنعاش الاقتصاد الأمريكي بعد أزمة انفجار فقاعة شركات الدوت كوم في وول ستريت على ضخ كمية هائلة من الأموال في السوق العقاري الأمريكي الذي تميز بالاستقرار وقلة التذبذب مما جعله ملاذا آمنا للمستثمرين. إلا ان دخول هذه السيولة الضخمة إلى هذا السوق المستقر أدى إلى طفرة في هذا السوق وقد كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي سعيد بهذه الطفرة حيث وجد في الرهون العقارية محركا رئيسيا للاقتصاد الأمريكي نظرا لأنه كان يتم إعادة تمويل المقترض كلما ارتفعت قيمة عقاره مما شجع الشعب الأمريكي على استمرار الإنفاق الاستهلاكي وبالتالي استمرار النمو في الاقتصاد الأمريكي إلا ان ما لم ينتبه له احد هو ان هذه الطفرة لم تكن نتاج اقتصادي حقيقي بل هي قائمة على سلسة من الديون المتضخمة التي لم يكن لها أي ناتج في الاقتصاد الفعلي. حيث كانت عبارة عن أوراق من السندات والمشتقات والخيارات وعقود التحوط يتم تبادلها والمضاربة عليها في السوق الثانوية، فهل من الممكن ان تقع مثل هذه الكارثة في أسواق تخضع في معاملاتها لإحكام الشريعة الإسلامية؟. الجواب كلا لا يمكن ان تقع كارثة بمثل هذا الحجم في أسواق تحكمها الشريعة الإسلامية لان المعاملات في الشريعة الإسلامية قائمة على تبادل حقيقي للسلع والمنافع فلا تجيز الشريعة الإسلامية الربا ولا بيع الإنسان ما لا يملك إلا بضوابط دقيقة كما في بيع السلم. حيث يجري تسليم الثمن بالكامل مع تأجيل المثمن وهنا تقل المخاطر التي تتعرض لها المعاملة كما تمنع بالإجماع البيع مع تأجيل الثمن والمثمن والذي يجري في عقود المشتقات ولا تبيح بيع الدين على غير المدين إلا وفق شروط دقيقة تمنع الربا والجهالة والغرر. ومن هذا الباب فقد حرم علماء الشريعة التعامل في السندات والمشتقات بجميع أنواعها وهذا يفسر لنا لماذا لم تتضرر المؤسسات المالية الإسلامية من هذه الأزمة؟

ان هذه الأزمة وأمثالها تبين إعجاز الشريعة الإسلامية وحكمة المشرع سبحانه في منع وتحريم مثل هذا النوع من التعاملات تظهر حاجة البشرية للعمل وفق هدى هذه الشريعة التي أتت بكل ما ينفع البشرية. ان مثل هذه الأزمة تضع عبئا ضخما على عاتق القائمين على الصيرفة الإسلامية يتمثل في ابتكار وخلق أدوات الصيرفة الإسلامية انطلاقا من الكتاب والسنة بعيدا عن استنساخ أدوات الصيرفة التقليدية أو تقليدها، وذلك حتى تستطيع ان تقدم الحلول الناجعة لهذا الاقتصاد الذي يترنح نتيجة اعتماده على التجربة الإنسانية القائمة على التجربة والخطأ.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]