خبير أميركي لـ «الشرق الأوسط»: «وول ستريت» تتابع نجاح «أسلمة» الاستثمارات المصرفية وقدرة تأقلمها مع الأسواق المضطربة

علي خان: أزمة النظام المالي العالمية فرصة مواتية لتعضيد التمويل الإسلامي

جانب من التداولات في بورصة نيويورك، وفي الاطار البرفيسور علي خان («الشرق الأوسط»)
TT

«لنسمها عواقب عمليات الغزو الاميركية غير المسؤولة، أو الحماس غير العقلاني للبائعين على المكشوف، أو كارثة القروض مرتفعة المخاطر، أو سوء إدارة المنتجات الممولة بقروض، أو حمّل المسؤولية عنها كيفما تشاء، ولكن الأسواق الاميركية تواجه انهيارا غير مسبوق، والمتشائمون لا يرون أي بصيص أمل في حزمة الإنقاذ الاقتصادي الفيدرالية».. هكذا وصف أستاذ قانون في إحدى الجامعات الاميركية حال الأزمة التي تعانيها الأسواق الأميركية. وأكد البروفيسور علي خان، أستاذ القانون في كلية الحقوق بجامعة ووشبيرن في توبيكا بولاية كانساس الاميركية، في حوار مع «الشرق الأوسط» في أبو ظبي أن الفرصة مواتية لتعضيد التمويل الإسلامي، خاصة أن «وول ستريت» لاحظت أن الاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، حققت نجاحا أكبر في الأسواق المضطربة، حيث نمت الاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية في الأسواق الغربية، خلال السنوات القليلة الماضية، إلى أكثر من نصف تريليون دولار. وقال أستاذ القانون إن المستثمرين المسلمين لهم كل الحق في مطالبة المصرفيين الاستثماريين الغربيين بابتكار أنواع استثمارات ومنتجات استثمارية تتجنب مخاطرة الميسر والربا، مضيفاً أنه رغم تميز النموذج الإسلامي ببساطته، إلا أن الشركات الغربية مستغرقة في الربا بشدة لدرجة أنه يصعب علينا أن نجد شركة لا تتقاضى أو تدفع فائدة، داعيا المستثمرين المسلمين إلى الاستثمار في الشركات الغربية، التي تبذل جهدا صادقا من أجل تجنب الربا والمقامرة.

وأشار خان إلى أن خطة الإنقاذ الأميركية قد توفر علاجا مؤقتا، وهو في الأساس علاج نفسي، ومن الممكن أن يعزز ثقة المشترين المفقودة، في حين أن الإنقاذ الاقتصادي لن يؤتي ثماره، ما لم تكن الأصول المعنية ذات قيمة، مضيفا أن الخطة التي تروج لها إدارة بوش على أنها علاج سريع لكافة المشكلات لن تزيد سرطان الدين المغل للفائدة إلا سوءا. إلى نص الحوار: > ما الذي يجري في الأسواق المالية الأميركية؟ ومن المسؤول عما يحدث؟

ـ سمّها عواقب عمليات الغزو الاميركية غير المسؤولة، سمّها الحماس غير العقلاني للبائعين على المكشوف.. سمّها كارثة القروض مرتفعة المخاطر، سمّها سوء إدارة المنتجات الممولة بقروض.. حمّل المسؤولية عنها كيفما تشاء، ولكن الأسواق الاميركية تواجه انهيارا غير مسبوق، والمتشائمون لا يرون أي بصيص أمل في حزمة الإنقاذ الاقتصادي الفيدرالية.

الأسواق الاميركية تواجه حاليا حالة من اللايقين نتيجة الانخفاض في قيمة أصول تساوي مليارات الدولارات، ويوجد بائعون ولكن لا يوجد مشترون لهذه الأصول. ومعظم هذه الأصول عبارة عن أوراق مالية ناشئة عن الرهونات العقارية. فالمصرفيون الاستثماريون يراكمون العديد من الرهونات العقارية في سلة واحدة، ويحولون هذه السلة إلى أوراق مالية. ويتحدد سعر الورقة المالية بقسمة قيمة السلة على عدد الأسهم التي تتضمنها. لنقل مثلا إن القيمة الإجمالية للسلة هي 500 ألف دولار، فإذا تم إصدار 50 ألف سهم لبيع السلة بأكملها، فإن كل سهم سيتم تسعيره بمبلغ 10 دولارات، وسوف ترتفع قيمة الورقة المالية وتنخفض حسب قيمة السلة. فإذا ارتفعت قيمة الملكية العقارية، ارتفعت معها قيمة السهم، وبالمثل فإذا انخفضت قيمة السلة، فسوف يتأثر سعر السهم بالسلب.

ومن هنا بدأت أزمة السوق عندما تعرضت آلاف من الرهونات العقارية لفقدان قيمتها؛ نظرا لأن الرهونات العقارية المعنّية فشلت، اما لأن ملاك العقارات تخلفوا عن الإيفاء ولم يستطيعوا سداد الرهن العقاري، أو لأن قيمة العقار المرهون انخفضت انخفاضا حادا. في أي من الحالتين، انخفض سعر السهم في الأوراق المالية المستندة إلى الرهونات العقارية، حيث تعرضت هذه الأوراق لمشكلات كثيرة لدرجة أن المشترين رحلوا عن السوق. أما حملة هذه الأوراق المالية القائمة على الدين فقد تورطوا في خسائر فادحة؛ لأن سعر السهم انخفض ما بين 50 إلى 80 في المائة. ونظرا لأن حَمَلَة هذه الأوراق اقترضوا أيضا أموالا لشراء هذه الأوراق المالية، فهم صاروا مدينين بمبالغ طائلة للمقرضين. ويجد المقرضون أنفسهم في ورطة عندما لا يكون لدى المقترضين أموال لسداد القروض. علاوة على ذلك، يعرض المقرضون عن إقراض المزيد من الأموال؛ لأنهم يخشون من فقدان المزيد من المال. وبالتالي فإن الأسواق المالية تعاني من مجاعة ائتمانية. وستتطلب خطة الإنقاذ الاقتصادي الفيدرالية من الحكومة الاميركية شراء أوراق مالية قائمة على الدين، وبالتالي تدخل الحكومة السوق كمشتر للأصول التي لا يريد أي شخص آخر شراءها. ويراهن مؤيدو هذه الخطة على أنه ما إن تنتهي حالة الخوف هذه، سوف يعود المشترون إلى السوق بحيث يمكن للحكومة أن تبيع الأصول المسماة بـ«السامة» وتحقق ربحا لدافعي الضرائب.

> كيف ترى مستقبل التمويل الإسلامي في خضم هذا البحر من النكبات الاقتصادية، وماذا عن وجهة انظر الإسلامية فيما يتعلق بأزمات الأسواق الاميركية؟

ـ هذه فرصة ممتازة لتعضيد التمويل الإسلامي، فالأمر المثير للسخرية أن وول ستريت لاحظت أن الاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ـ والتي تتجنب المخاطر القمارية والجشع المثقل بالديون ـ حققت نجاحا أكبر في هذه الأسواق المضطربة. ففي السنوات القليلة الماضية، نمت الاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية في الأسواق الغربية إلى أكثر من نصف تريليون دولار.

كما أن الإسلام يحرم نوعين من المخاطر، أولا يحرم المخاطرة القمارية والتي يطلق عليها اسم (الميسر)، وبناء على ذلك فإن أي استثمار يبدو في صورة لعبة من ألعاب الحظ هو حرام. فخيارات الأسهم المكشوفة، وخيارات الفائدة، والعقود الآجلة تنطوي على قدر كبير جدا من المقامرة ولا تجوز كاستثمارات إسلامية، رُغم الزعم بأنه تم تصميمها لتحويط الاستثمارات. فكثير من هذه المنتجات المالية يجتذب المضاربين على أمل تحقيق ربح سريع. وعندما يلجأ مديرو الصناديق الموثوق بهم ـ تحت الضغوط المؤسسية لإظهار الربح ـ إلى المخاطرة القمارية، تتحول استثمارات التحوط إلى استراتيجيات انتحارية للدمار المالي.

ونتيجة للطمع والسعي وراء الإثارة، افتقدت الاستثمارات المستقيمة في الشركات الضالعة في أنشطة مفيدة اجتماعيا جاذبيتها، بل وصارت مملة، نتيجة لمعدل عائدها الذي يفترض أنه منخفض، وهي في الأغلب نبوءة تحقق ذاتها. فهناك مليارات من الدولارات التي يتم الإلقاء بها في الشركات التي تعد بأرباح طائلة من دون أن تنتج شيئا. وفي حين أن الإسلام يبيح المخاطرة بالاستثمارات في المشروعات البحثية المفيدة اجتماعيا، إلا أنه يحرم الاستثمارات في الشركات التي تبيع الكحول أو التبغ أو المواد الإباحية أو الديْن أو الأسلحة، وهي المنتجات التي تدمر صحتنا وتودي بسلامتنا.

كما أن الإسلام يحرم الاستثمارات الخالية من المخاطر، إذ يتضمن الربا الاستثمارات الخالية من المخاطر والتي لا ينخرط فيها المقرض في تجارة، بل يريد تحقيق الربح من دون تعريض استثماراته لأية مخاطرة. وبين هذين الحدين ـ وهما الاستثمارات القمارية والاستثمارات الخالية من المخاطر ـ يطرح الإسلام فكرة التجارة، من شراء وبيع، حيث يمضي المسلمون في مشروعات حلال لإنتاج سلع وخدمات مفيدة للمجتمع. أما الاستثمارات في صناعات تنتج الكحوليات والمواد الإباحية والأسلحة فهي إما حرام أو مكروهة. وهذه الأسواق المباحة ليست خالية من المخاطر ولا عرضة لمخاطر غير مسؤولة. ورغم أن هذه الأسواق مبتكرة وأصلية، إلا أنها متشربة بقيم النزاهة والشفافية والأرباح المسؤولة، كما أنها خالية من الممارسات اللصوصية التي تفسد المعاملات بالجشع وتتسبب في خلق صعوبات أمام الفقراء وكبار السن والمبتدئين. وعلى ذلك، فإن المستثمرين المسلمين لهم كل الحق في مطالبة المصرفيين الاستثماريين الغربيين بابتكار أنواع استثمارات ومنتجات استثمارية تتجنب المخاطرة القمارية والربا. ورغم أن النموذج الإسلامي يتميز ببساطته، إلا أن الشركات الغربية مستغرقة في الربا بشدة، لدرجة أنه يصعب علينا أن نجد شركة لا تتقاضى أو تدفع فائدة. إذن فمن الناحية العملية يمكن للمستثمرين المسلمين الاستثمار في الشركات الغربية التي تبذل جهدا صادقا من أجل تجنب الربا والمقامرة.

> في رأيكم، كيف يمكن للولايات المتحدة أن تخرج من هذه الأزمات؟ وهل يقدم التمويل الإسلامي أي حل؟

ـ نعم.. أعتقد أن الإسلام لديه الكثير مما يقدمه للأسواق الاميركية في ظل جملة من المسببات. أولا سوف يؤدي الاستهلاك الأعمى في النهاية إلى فشل النظام. فأي افتتان دائم بالاستهلاك دائم التزايد تم تسويقه على أنه أساس ازدهار الرأسمالية. فالناس والشركات وحتى الحكومة جميعهم يقترضون المال من أجل الإنفاق والاستهلاك. وقد بلغت دورة الاستهلاك غير المسؤولة هذه حدودها. والإسلام يعلم المؤمنين الاعتدال في الاستهلاك، ويجب أن تحترم الأسواق الاميركية الاستهلاك المعتدل وتتوقف عن السعي وراء فكرة الاستهلاك غير المحدود بناء على الاستدانة، وهي فكرة فاسدة أخلاقيا. ومن ثم فإن الاستهلاك المبني على الاستدانة مرفوض في الإسلام؛ لأنه ينتهك اثنتين من قواعد الشريعة، وهما القاعدة التي تمنع الإفراط في الاستهلاك، والقاعدة التي تمنع الربا.

وعلى هذا يجب أن تعيد الأسواق الاميركية النظر في فكرة البيع على المكشوف، وهو نوع من أنواع الاستثمار يزدهر عندما تنهار الشركات وتغلق أبوابها ويفقد العاملون بها وظائفهم ويقضى على صناديق المعاشات نظرا لتراجع سهم الشركة. إن البائعين على المكشوف يحققون أرباحا عندما تنهار الشركات وتغلق أبوابها. فبقلب المنطق التقليدي للاستثمار رأسا على عقب، يتمنى البائعون على المكشوف أن تنهار الشركات، لا أن تزدهر؛ نظرا لأنهم يحققون أرباحا أكثر عند إفلاس هذه الشركات.

إن مثل هذه الاستثمارات التي تخدم المصالح الشخصية تتعارض مع المبدأ الإسلامي الذي يشجع الاستثمار في ازدهار الشركات لا في خرابها. ويوصف البيع على المكشوف بأنه قوة مفيدة تحقق التوازن، ولكنه يبدأ في نشر السلبية والسيكولوجية اللصوصية في السوق. وفي أوقات الشدة نجد أن البيع على المكشوف يزيد الوضع تفاقما. ولكن حتى في أوقات الرخاء، فإن البيع على المكشوف فكرة فاسدة أخلاقيا ترفضها الشريعة الإسلامية.

> هل تعتقد أن خطة إنقاذ النظام المالي الأميركي سوف تحل المشكلات التي تواجه الأسواق الاميركية؟

ـ ربما توفر حزمة الإنقاذ الاقتصادي الفيدرالية علاجا مؤقتا. وهو في الأساس علاج نفسي، ومن الممكن أن يعزز ثقة المشترين المفقودة. ولكن الإنقاذ الاقتصادي لن يفلح إلا إذا كانت الأصول المعنية ذات قيمة. فإذا أخذنا في اعتبارنا قيم العقارات المتضخمة بشدة، نجد أن معظم الرهونات العقارية عبارة عن قروض رديئة مبنية على تفكير في أن قيم العقارات سوف تستمر في الارتفاع. ومن غير المحتمل أن تزداد قيمة هذه العقارات، بل من الممكن أن تنخفض أكثر منذ ذلك، فتغرق الأموال التي تستخدمها الحكومة لشراء هذه الأصول. أو ربما تزداد قيمتها ولكن بدرجة قليلة، فتحتجز الأموال الفيدرالية في أصول عديمة الفعالية. ولا أظن أن الحكومة سوف تحقق ربحا، وعلى الأرجح أن الحكومة ودافعي الضرائب سوف يخسرون أموالهم. إن حزمة الإنقاذ الاقتصادي الفيدرالية التي تروج لها إدارة بوش على أنها علاج سريع لكافة المشكلات لن تزيد سرطان الديْن المغل للفائدة إلا سوءا. ومن غير المحتمل أن يؤدي ضخ المزيد من المال إلى إصلاح المؤسسات والشركات المبنية على طبقات من الدين المغل للفائدة. فعندما يستغرق الأفضل والأذكى في إيجاد طرق لكسب المال بالمال ولا شيء أكثر من ذلك، فإن النظام قد يبدو مبتكرا وذكيا، ولكنه يسير في اتجاه الدمار المشترك.