الصيرفة الإسلامية والفساد الإداري

TT

لعل الكثيرين صُدموا بما تناقلته وسائل إعلام عن قضية فساد مالي في أحد البنوك الإسلامية. ومرد الصدمة ليس لوجود الفساد المالي في مؤسسة مالية عريقة، مع أن هذا يعد سببا كافيا لحصولها، إلا أن ما أحدث الصدمة وزاد من وقعها هو حدوثها في مؤسسة مالية إسلامية، تزعم أن الشريعة الإسلامية هي الموجهة والحاكمة لجميع تصرفاتها.! فلماذا حدث ما حدث؟.

لا شك أن ما حدث ناتج عن إهمال بعض المؤسسات المالية الإسلامية المؤسسة لأهم معيار من المعايير الشرعية في التوظيف، والذي نص على وجوب اتصاف من توكل إليه المسؤولية من موظف أو إداري بالأمانة وللدلالة على أهمية هذا المعيار، فقد ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع، قال تعالى في سورة يوسف آية 55 «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» وفي سورة النمل آية 39 «قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» وفي سورة القصص آية 26 «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ». ومع أهمية هذا المعيار من الناحية الشرعية والمهنية إلا أننا نجد انه متأخر جدا في سلم أولويات التوظيف لدى بعض المؤسسات المالية الإسلامية. حيث نجد أنها لا تعير أي اهتمام للتحقق من اتصاف من تريد توظيفه بهذه الصفة، والتي يمكن التحقق منها عبر البحث في سلوكه وأخلاقياته في حياته الخاصة وتاريخه الوظيفي، ومدى التزامه بأحكام الشريعة الإسلامية إن كان مسلما مع أنها ملزمة بتطبيقه. وكل ذلك وفقا لنظامها الأساسي الذي ينص على أن القانون الحاكم لتصرفاتها هو الشريعة الإسلامية. إلا أن بعض المؤسسات المالية الإسلامية قد تتحجج بأنها بذلت الجهد والطاقة في البحث عمن يتصفون بهذه الصفة فلم تجد. والحقيقة أن هذه الحجة قد تُقبل، إذا وجدنا ما يسندها من إثباتات، حيث إن اجتماع صفتي القوة والأمانة في شخص واحد أمر عزيز ويمكن وصفه بالندرة، خصوصا في هذا الزمن. إلا أنه يمكن تعزيز جانب الأمانة لتعويض النقص الموجود في الأشخاص عبر بناء نظام رقابي محكم داخل المؤسسة وخارجها، مع تعزيز دور الرقابة الشرعية لتشمل جوانب الغش والخداع وسوء استخدام موارد المؤسسة، وهو ما تفتقر إليه بعض المؤسسات المالية الإسلامية. إذ وصل الحال في بعضها أنها تعمل من دون أن يكون لديها أدلة خاصة بالسياسات والإجراءات الواجب اتباعها، لتسيير الأعمال داخل المؤسسة مما جعلها مرتعا خصبا للفاسدين والمفسدين. وقد فطن لأهمية وجود هذه الرقابة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث اثر عنه انه قال: «إني لاستعمله ـ يعني الرجل الفاجرـ لأستعين بقوته ثم أكون على قفاه، أي أراقبه من حيث لا يشعر». وقد كان عزّ في زمنه رضي الله عنه وجود القوي الأمين، مما حدا به للشكوى لله فكان يقول «اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة» فلم ير بُداً من استخدام الفاجر، ولكن جعل الثقة رقيبا عليه. وفي الحقيقة أن حادثة بنك دبي الإسلامي ليست الحالة الوحيدة ولن تكون كذلك، ما دامت بعض المؤسسات المالية الإسلامية متنكبة طريق الحق، متجاهلة للمعايير الشريعة في اختيار قياداتها وضبط العمل داخلها، حيث لا أنفك أسمع الكثير من القصص من داخل بعض المؤسسات المالية الإسلامية، تدور حول هذا الجانب فمن عقود توظيف بأرقام خيالية لا مبرر لها سوى المحسوبية والفساد الإداري، إلى عقود استشارات مع مؤسسات استشارية في جوانب لا حاجة للمؤسسة المالية إليها. فضلا عن خطوط الائتمان التي تمنح من دون أن تكون هناك الضمانات الكافية أو التوثيقات اللازمة. وعند اكتشاف مثل هذه الأمور عند المراجعة أو التدقيق إن حدث مثل ذلك، فإن المتسبب في ذلك لا يناله أي عقاب فهو محمي، إما بعدم وجود سياسات وإجراءات تجرم مثل هذا العمل، أو نتيجة للتواطؤ الإداري من قبل كبار التنفيذيين. ومن هنا فإنني أرى انه يجب ألا تقف مهمة الهيئات الشرعية على الرقابة على المنتجات وطرق عملها ومدى التزامها بالشريعة الإسلامية، بل يجب أن يكون أشمل من ذلك وأعم، بحيث يشمل كذلك ما يحدث من تجاوزات مالية أو إدارية لأن هذا واجبها الشرعي، حيث انه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما يجب على المؤسسات الرقابية العناية بهذا الجانب عبر إيجاد قنوات سرية لإيصال الشكاوى والملاحظات من قبل العاملين داخل هذه المؤسسات، لكي تكون على اطلاع دائم على ما يحدث داخلها، مع التفاعل مع هذه الشكاوى والملاحظات، بحيث تعزز هذا الجانب لدى العاملين داخل هذه المؤسسات، فهم أقوى من كل رقيب. كما يجب عليها إيجاد آلية للتقصي عن المرشحين للمناصب القيادية لهذه المؤسسات مع المراجعة الدورية وتحديث المعلومات بطرقها الخاصة، بعيدا عن المؤسسة المالية المعنية، حفاظا على استقرار النظام المصرفي. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]