المداينات وأثرها على المصارف الإسلامية

TT

لا تكاد تطالع كتابا أو بحثا يتحدث في أدبيات الصيرفة الإسلامية ونموذج الأعمال الذي تقوم عليه سواء كان الكاتب عربيا أم غربيا إلا ويصفها بأنها مصرفية تقوم على المشاركة حتى أنه في دولة مثل تركيا يطلق على المصارف الإسلامية مصارف المشاركة، وهذا بالضرورة يعني أن الغالب في عمليات المصارف الإسلامية هو المشاركات لا المداينات. ولكن الواقع عكس ذلك تماما حيث تغلب على أعمال الصيرفة الإسلامية سواء كانت مصارف إسلامية أم نوافذ إسلامية في مصارف تقليدية استخدامها لعقود المعاملات التي تنشئ ديونا بمجرد إبرامها وعلى وجه الخصوص عقد المرابحة بجميع صوره التي يرد بها مثل البيع الآجل والتقسيط والتورق. حيث تشكل المرابحة حوالي 70 ـ 80 في المائة من عمليات التمويل في الصيرفة الإسلامية، وبالتالي فقد تحولت الصيرفة الإسلامية إلى صيرفة مداينات لا مشاركات. ولعل السبب في ذلك هو بساطة إجراءات المرابحة ومحدودية مخاطرها الائتمانية مع شبهها بعقد القرض في الصيرفة التقليدية مما أوجد لها القبول في نفوس العاملين في القطاع المصرفي. إلا أن غلبتها على موجودات المصارف الإسلامية على وجه الخصوص يشكل خطرا بالغا على هذه المصارف من عدة أوجه أهمها:

أولا: الحد من قدرة هذه المصارف على إدارة السيولة بالكفاءة المناسبة، حيث إنها لا تستطيع تحويل هذه الموجودات من موجودات غير سائلة أي غير قابلة للتداول إلى موجودات سائلة أي قابلة للتداول عند الحاجة لذلك، وذلك عبر تصكيكها لأنها ديون وتداول الديون ممنوع في الشريعة الإسلامية إلا بشروط قاسية تجعل عملية التصكيك متعذرة إن لم تكن مستحيلة. ثانيا: زيادة أعباء المصارف الإسلامية قياسا بالمصارف التقليدية في الوفاء بمتطلبات كفاية رأس المال الواردة في معايير بازل 2، حيث إن غلبة المديونيات على موجودات المصارف الإسلامية تحد من قدرتها على تصكيك هذه الموجودات، وبالتالي فهي تحد من قدرتها على منح التمويل خلافا للمصارف التقليدية التي تستطيع تسنيد موجوداتها من القروض. ثالثا: الحد من قدرة المصارف الإسلامية على إدارة مخاطرها حيث إن غلبة المديونيات على موجوداتها سيجعل من المتعذر على هذه المصارف نقل هذه المخاطر إلى جهات أخرى وذلك عبر تصكيكها، وبالتالي فستكون مخاطر المصارف الإسلامية أكبر من مثيلاتها التقليدية التي تستطيع نقل مخاطر موجوداتها إلى جهات أخرى عبر تسنيدها. وهنا نرى أن ما كان نعمة في البداية، حيث ذكرنا أن من أهم أسباب غلبة المرابحة على عمليات التمويل في الصيرفة الإسلامية هو محدودية مخاطرها، أصبح نقمة على المصرف كمؤسسة.

رابعا: إن غلبة المداينات المتمثلة في عقد المرابحة بشتى صوره في عمليات التمويل في الصيرفة الإسلامية تحد من قدرة هذه الصناعة على إدارة المخاطر السوقية المتمثلة في تغير سعر الفائدة وإدارة مخاطر الائتمان المتمثلة في تأخر أو إخفاق العميل في سداد التزاماته لأن الدين إذا ثبت في الذمة فلا يجوز شرعا زيادته لأن ذلك هو عين الربا المحرم في الشريعة الإسلامية. وبالتالي فإن الصيرفة الإسلامية تكون معرضة لتلاشي أرباحها بل والخسارة في بعض الأحيان، وذلك عندما يرتفع سعر الفائدة فتصبح كلفة الأموال عليها (الودائع) أكبر من هامش تمويل المرابحة الممنوح للعميل أو عندما يتأخر العميل أو يخفق في السداد خصوصا عندما يتم استقطاب ودائع الصيرفة الإسلامية بالمرابحة قصيرة الأجل وليس بالمضاربة. ومن هنا يتبين لنا مدى أهمية عدم غلبة المداينات على موجودات المصارف الإسلامية، وبالتالي فيتعين على الجهات الرقابية فرض حدود قصوى للتمويل بالأدوات الإسلامية المنتجة للديون بالنسبة للمصارف الإسلامية ومراقبة مدى التزام المصارف الإسلامية بذلك حتى لا تتعثر هذه المصارف في الوفاء بالتزاماتها، مع تشجيعها للمصارف الإسلامية على تنويع أدواتها عبر مشاركتها في تطوير وابتكار هذه الأدوات وسن القوانين والأنظمة التي تتلاءم معها وإيجاد الهياكل المؤسسية التي تقلل من مخاطرها لتشجيع المصارف على استخدامها. ويمكن هنا أن نستشهد بتجربة الحكومة الأميركية عندما أرادت تشجيع المصارف على التوسع في التمويل العقاري فأنشأت شركتي فريدي ماك وفاني ماي للرهن العقاري والاستشهاد هنا هو لضرب المثال على ما يمكن أن تقدمه الجهات الرقابية من مساهمات لا لاحتذائها، مع إيماني بأن تجربة شركتي فريدي ماك وفاني ماي كانت تجربة فريدة شابتها الكثير من الأخطاء التي شوهتها. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]