خبراء دوليون يلمحون إلى عدم رغبة ممارسي التمويل الإسلامي في وضع معايير موحدة لخدمة الصناعة

محامون ومختصون لـ«الشرق الأوسط»: عواقب الاختلاف تزيد مخاطر مخالفة الأحكام الشرعية

المؤتمرات والندوات الدورية تسعى إلى تقريب وجهات النظر فيما يتعلق بالمعايير الشرعية لعمل المؤسسات المالية الإسلامية («الشرق الأوسط»)
TT

أكد خبراء دوليون أن كثيرا من البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية في دول العالم لا ترغب في وضع معايير موحدة للصناعة، مشيرين إلى أن بعضا من هذه المؤسسات يفضل أن يكون لكل مؤسسة معاييرها الخاصة بها.

وقال أندرو ميتكاف أخصائي التمويل الإسلامي في شركة كنغ آند سبالدنغ للمحاماة، إن تطوير معايير مشتركة لمنتجات التمويل الإسلامي في القريب العاجل يمكنه أن يضر بنمو القطاع الناشئ على المدى الطويل.

وأضاف ميتكاف الذي يعمل شريكا في فرع الشرق الأوسط والتمويل الإسلامي في شركة المحاماة التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها ـ في حديث له خلال قمة رويترز للمصرفية والتمويل الإسلامي في لندن، إن الصناعة تواجه خيارات صعبة بين المزيد من الابتكار أو التوحيد القياسي للمنتجات التي تقدمها في الوقت الحالي.

ومضى ميتكاف في حديثه أن الصناعة عند مفترق طرق الآن، وأحد المسارات يتمثل في دراسة أين تقف الصناعة الآن وكيف يمكن تطويرها مفصحا أن هناك ممارسين يقولون: «نحن لا نريد توحيد ما نفعله الآن، فهو لم يتطور بما يكفي».

وأردف ميتكاف أنه شخصيا يضم صوته للمعسكر الثاني الذي يقول إن تجميد الزمن حاليا من شأنه أن يلحق ضررا بنمو الصناعة على المدى الطويل؛ إذ لا تزال كثير من التفاصيل التي تستطيع الصناعة أن تفعلها.

وزاد ميتكاف أنه يجب أن تتم إجازة المنتجات المالية الإسلامية من علماء الشريعة الإسلامية، ولكن تفسيرات هؤلاء العلماء للنصوص الإسلامية متباينة، مما يسفر عن اختلافات بين المنتجات الإقليمية.

وأضاف ميتكاف أن المدرسة الفكرية الماليزية ينظر إليها على أنها ذات توجه نحو الابتكار، في حين أن علماء الشرق الأوسط ينظر إليهم باعتبارهم أكثر تحفظا، مشددا على أن صناعة التمويل الإسلامي يجب أن تحدد موقفها بشأن المشتقات المالية التي كانت قد بدأت تتطور قبيل الأزمة الائتمانية، داعيا إلى ضرورة بحث مسألة «هل المشتق المالي أقرب إلى مفهوم المقامرة أم أنه يحقق غرضا اقتصاديا؟».

ومن جهته، قال في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط» روبرت مايكل رئيس اللجنة الفرعية للشريعة الإسلامية في نقابة المحامين في مدينة نيويورك: «لا أعتقد أن الصناعة تقف على مفترق طرق حقيقي. فهذا يوحي بأن القرارات التي تتخذ الآن سوف تغير الطريقة التي تسير بها صناعة التمويل الإسلامي لفترة زمنية طويلة».

وأضاف مايكل وهو محام دولي في مجال «الإعسار والتمويل»: «يمثل التوحيد القياسي قضية في معظم شركات المحاماة، ولكن هذه القضية لا تمثل شيئا أكثر بكثير من مجرد تقليل التكاليف القانونية إلا على مستوى المستهلك فقط». وبين روبرت مايكل أن المستهلكين بحاجة إلى صيغ موحدة بحيث لا يضطرون إلى فهم اللغة القانونية التي ربما تختلف من مقرض إلى آخر، مفيدا أن المعاملات القانونية المعقدة غير الاستهلاكية أشبه ما تكون بالإجراءات الطبية المعقدة، حيث يقوم المهنيون المبدعون على الدوام بتطوير طرق أفضل لفعلها. وتابع: «يصدق هذا بوجه خاص على المجالات مثل التمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية الذي لا توجد فيه سلطة تشريعية أو جهة تنظيمية حاكمة أو نظام قضائي يمكنه أن يصدر صيغا رسمية (ملاذا آمنا) أو حتى قواعد». وأوضح مايكل أن هناك أيضا قضية اختلاف القوانين الحاكمة، حيث أي شخص سبقت له المشاركة في صياغة وثائق قروض وتمويل نموذجية لا بد أن يكون على دراية بأن قانون نيويورك يمكنه أن يكون مختلفا من نواح أساسية معينة عن قانون كاليفورنيا ناهيك عن اختلافه عن قانون إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو اليابان. وأضاف روبرت أنه في مجال التمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية، فالرؤية السابقة تصدق بوجه خاص على المذاهب السنية الأربعة ومختلف المذاهب الفقهية بين الجماعات الشيعية المتعددة، مستطردا أن الشريعة الإسلامية تقنيا ليست «قانونا حاكما» كما ينظر إليها على الأقل القانون الإنجليزي، وكما تنظر إليها معظم الولايات الأميركية، فمن الصعب أن يتم استخدامها كأساس للتوحيد.

وأبان مايكل أن الأمر ذا الأهمية المماثلة هو حقيقة أن «الالتزام بالشريعة الإسلامية من قبل مزود التمويل أو متلقي التمويل ليس مجرد قضية قانونية بل هو قضية دينية، وهو الأمر الذي يولد التساؤل حول من صاحب القرار الذي تعتمد عليه الأطراف كافة؟ وهل يمكن لمستثمر في الرياض أن يعتمد على صيغة لأنها مقبولة لدى مستثمر آخر في الدوحة أو كوالالمبور؟، مضيفا أن عاقبة الاختلاف ليست مجرد زيادة مخاطر تكبد المرء مزيدا من النفقات القانونية أو خسارة بعض الأموال، بل مخاطر مخالفة الأحكام الشرعية والوقوع في الإثم».

ورأى مايكل وهو رئيس فخري للجنة القوانين الأجنبية والمقارنة التابعة لنقابة المحامين في نيويورك، أن الجدل المشار إليه في قمة رويترز للتمويل هو مجرد انعكاس للنمو الصحي، وتوسيع للموارد التي يتم تخصيصها الآن لتطوير التمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية. وقال: «وجود قدر معين من التوحيد يعد محايدا في أثره وحتميا أيضا لأنه في مختلف الظروف والأحوال نجد أن المحامين كافة حول العالم تقريبا هم ناقلون أكثر منهم مبتكرين».

وبين مايكل أن هناك أمانا في استخدام صيغة موحدة، لأن هذا يسمح للمحامين بتعريف المحامين الجدد أو الأقل خبرة الذين لا يتعين عليهم فهم ما يقومون بصياغته بهذه العملية، بل فقط كيفية التكيف مع المتغيرات التي تشتمل عليها معاملة بعينها.

وأشار مايكل إلى أن كل شركة محاماة ستحاول إعادة استخدام الوثائق التي استخدمت في معاملات سابقة، والشركات التي أجرت العديد من معاملات التمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية تمتلك ميزة تنافسية تميزها على غيرها من حيث إمكانية توفير التكاليف. وزاد مايكل: «إذا أخذنا في الاعتبار المتغيرات في كل من الأنماط والقانون الحاكم، لا أظن أنه من المعقول الآن ـ وربما في أي وقت آخر ـ أن نستخدم صيغا بخلاف صيغ المصرفية الإسلامية للمعاملات الاستهلاكية التي تم تطويرها من قبل في العديد من الدول من أجل معاملات التمويل البسيطة نسبيا مثل المضاربة وبيع السلم والإجارة ثم البيع والإجارة المنتهية بالتمليك. وحتى هذه المعاملات يمكن أن تكون محل جدل ـ ولا سيما الإجارة المنتهية بالتمليك ـ عند استخدامها كبديل صريح للقرض الذي يدر فائدة».

وأكد المحامي الأمريكي أن المجال الآخر الذي يعد التوحيد القياسي فيه ضروريا هو بالطبع أسواق رأس المال، مضيفا بالقول «ولكن يبدو لي أنه إذا أخذنا في اعتبارنا الفتوى الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن الصكوك في العام الماضي والتخبط العالمي في أسواق رأس المال، نجد أن هذه الأسواق بحاجة إلى الاستقرار والتعرف على المنتجات التي سيستريح لها المستثمرون، وذلك قبل أن نشغل أنفسنا بالسعي إلى تطوير صيغ موحدة للمنتجات التي ربما لا يرغب أحد في الاستثمار فيها».

ومن ناحيته، قال لـ«الشرق الأوسط» طه عبد البصير المستشار الشرعي لدى العديد من صناديق الاستثمار والبنوك الاستثمارية وشركات الاستشارات المالية، إن عملية تأطير هذه القضية ذاتها ـ كقضية تشتمل على اختيار «مفترق طرق» بين التوحيد القياسي وعدم التوحيد القياسي ـ ليس دقيقا بالدرجة الكافية وبالتالي فإنه مضلل نوعا ما. وأضاف طه الذي يعد أحد كبار المساهمين في قاعدة بيانات برنامج هارفارد لمعلومات التمويل الإسلامي حول الفقه والأخلاق المالية الإسلامية، ومحاضرا باللغة العربية في جامعة بوسطن الأميركية: «بعض أبعاد هذا المجال متعدد الحقول العلمية الذي نعرفه باسم التمويل الإسلامي سوف يستفيد من التوحيد القياسي، في حين أن هناك أبعادا أخرى لن تستفيد».

ولفت الخبير الاقتصادي إلى أن الأمر ذا الأهمية الخاصة بالنسبة للخبراء في الأخلاق الإسلامية والشريعة، أي الفقهاء، هو قضية التوحيد القياسي للمبادئ والقواعد والأعراف القانونية الأخلاقية الإسلامية التي تسري على مجال التمويل الحديث، مفيدا أنه من ناحية فهناك درجة من الاختلاف في الآراء وهذا يقع في صميم التراث الفكري الإسلامي ولا ينبغي القضاء عليه، بل لا يمكن ذلك. ومن ناحية أخرى ـ على حد تعبيره ـ فإن التوحيد القياسي في الأخلاقيات المالية والشريعة الإسلامية عبارة عن حصان ترك الحظيرة إذ من المقبول على نطاق واسع ومن قبل بين خبراء العالم أن المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية توثق المواقف المفضلة الغالبة التي اتخذها خبراء العالم. وقال: «يجب على هؤلاء الاستشاريين القانونيين أن يتشاوروا بل يعتمدوا على المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية عند الرد على الاستفسارات الرسمية»، لافتا إلى أنه من الملائم أن تتبنى السلطات الحكومية الالتزام بالمعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية باعتبارها سياسة تنظيمية.

إلى ذلك، قال لـ«الشرق الأوسط» حيدر علاء حمودي، أستاذ القانون المساعد بكلية الحقوق بجامعة بيتسبيرغ الأميركية إنه من المنطقي تماما أن ممارسي صناعة التمويل الإسلامي لا يريدون أي شكل من أشكال التوحيد؛ لأن الوضوح يقلل القدرة على إبرام الصفقة. وفسر حمودي معنى حديثه بأنه لو كان مؤسس معاملة متوافقة مع الشريعة الإسلامية يمكنه اختيار هيئته الشرعية ثم يمكنه إتمام الصفقة ما داموا يجيزونها، فسوف يكون لديه مرونة كبيرة ـ أقول كبيرة ولكن ليست مطلقة ـ في أن يصف المعاملة وصفا حقيقيا بأنها متوافقة مع الشريعة الإسلامية». وأضاف حمودي أن هذا يجعل إتمام المعاملة أسهل كثيرا مما لو كان مؤسس هذه المعاملة لديه مجموعة من المعايير التي يجب أن يلتزم بها، ومن ثم فليس من قبيل المفاجأة أن جميع الممارسين في هذا المجال يقاومون التوحيد القياسي.

وأبان حمودي أن الغالب في المعايير بأي صناعة لا تبدأ في الظهور إلا بسبب التهديدات التي تنذر بمزيد من القيود التي تفرضها قيود خارجية، مثل الدولة وذلك في صورة تنظيمات وقواعد قانونية.

وفيما يتعلق بدور هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، أوضح أستاذ القانون المساعد في كلية الحقوق أنه لا يرى أن هذه الهيئة تضع فعلا أي معيار؛ حيث إن المعيار يتم استيفاؤه عند خرقه لا في الالتزام به، موضحا أنه لا يظن أنه يتم التعامل معها بجدية باعتبارها قيودا (وليست أهدافا يطمح إلى تحقيقها).