المؤسسات المالية الإسلامية حائرة بين اللجوء لـ «المحاكم الإنجليزية» أو استحداث قوانين خاصة

أعضاء هيئات شرعية يؤكدون لـ «الشرق الأوسط» أن التحكيم وتقنين القضاء حل للمشاكل

الهيئات الشرعية تؤكد على البنوك أهمية ألا تتعارض القوانين الوضعية مع أحكام الشريعة الإسلامية («الشرق الأوسط»)
TT

بات نمو المؤسسات المالية الإسلامية يشكل ضغطا كبيرا على صناع القرار في هذه المؤسسات، مع تشديد كثير من الهيئات الشرعية على عدم الحيد عن أحكام الشريعة الإسلامية في كافة معاملات المؤسسات والبنوك.

وتشهد بعض البنوك والمؤسسات العاملة وفق الشريعة الإسلامية عددا من القضايا والخلافات فيما بينها، سواء تلك المتعلقة بالعلاقات مع الأفراد أو فيما بين المؤسسات نفسها. غير أن التساؤل الذي يطرحه جمهور المتعاملين مع هذه المؤسسات، هو: لماذا اللجوء إلى المحاكم الإنجليزية في حل الخلافات بدلا من محاكم أخرى؟

يجيب بعض المهتمين بهذا الشأن بأن عدم وجود قوانين وأنظمة مقننة للمعاملات المالية الإسلامية، سبب كاف للجوء إلى المحاكم الإنجليزية، إلى جانب الخبرة العريقة التي اكتسبتها هذه المحاكم في حل كثير من القضايا سواء المالية أو غيرها.

كما أن بعض العاملين في الهيئات الشرعية أو القريبين لهذه الصناعة، يرون أن وجود جهات تحكيمية حاليا يساعد في تجنب الاحتكام إلى المحاكم الإنجليزية، خاصة أن الصناعة تشهد نموا كبيرا، ولم يعد بمقدور كثير من الجهات القضائية في بعض الدول حل أي خلافات قد تطرأ داخل الصناعة المالية الإسلامية.

وسجلت إحدى الدول الخليجية حالة مشابهة لمثل هذه القضية، حيث شهدت شكوى ضد شركة كانت قد أصدرت صكوكا ولم تستطع الالتزام بدفع حقوق المساهمين أو حملة الصكوك، ما دفع الأخيرين إلى اللجوء إلى المحاكم الإنجليزية لحل هذا الخلاف.

ودائما ما تبرر المؤسسات المالية الإسلامية لجوءها إلى المحاكم الإنجليزية بأنه شرط مدون في العقود التي تبرمها هذه المؤسسات مع غيرها، وتأكيدها دائما بأن اللجوء إلى هذا الشرط مربوط بعدم مخالفته مع أحكام الشريعة الإسلامية.

ويرى البعض أنه تبرز قانونيا مخاطر قضائية تتعلق بتفسير الصيغ الشرعية عندما تستخدم في معاملات استثمارية، أو عندما يراد أن تحكم العلاقات التعاقدية الاستثمارية أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.

ويلاحظ في التطبيقات المعاصرة أنه تحال المعاملات لفض النزاع الناشئ عنها إلى المحاكم الوضعية، أو بالأخص إلى القانون الإنجليزي حيث يكون لها ولاية قضائية للنظر والفصل في النزاعات المالية بين الأطراف.

ويكون النظر في القضية وفقا لأحكام ومبادئ القانون الإنجليزي، ما يؤدي إلى أحكام قضائية مخالفة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.

وفي ظل عدم وجود أي مبادئ قانونية تسمح بالنظر إلى القضية من الناحية الشرعية فإن المصارف الإسلامية عرضة لأن تنقض مبادئها التي أنشئت على أساسها.

كما أنه مع تطبيق القوانين والأنظمة الرقابية والإشرافية التي تركز على تذليل عقبات الإجراءات دون التطرق إلى الأحكام التفصيلية لصيغ الاستثمار الإسلامي بحيث تعطي القاضي مادة قانونية في ضوء الأحكام الشرعية يتمكن من الاعتماد عليها عند نشوء النزاع.

ويرى باحثون إسلاميون أن قطاع المصرفية الإسلامية، حائر بين قبول القوانين الدولية التقليدية في قضايا التحكيم، أو قوانين قريبة من الأحكام الإسلامية.

وقال الدكتور محمد القري، أستاذ الاقتصاد الإسلامي وعضو هيئات شرعية في عدد من البنوك الإسلامية، إن أكثر ما ينص عليه في الاتفاقيات المتعلقة بالتمويل الإسلامي هو أن يكون الاحتكام إلى المحاكم الإنجليزية.

وأضاف القري أن السبب في ذلك هو أن المحاكم الإنجليزية قد اشتهرت بأن القضاة فيها على قدر عال من الكفاءة والتخصص، وفي الوقت نفسه فهي ذات كفاءة عالية بحيث إن القضايا لا تأخذ وقتا طويلا فيها، مبينا أن كثيرا من المتعاملين وخصوصا في المعاملات التجارية سواء كانوا في البنوك الإسلامية أو غيرها يلجأون إلى المحاكم الإنجليزية.

وعلل القري ذلك بأن الباعث الذي مكن الناس من مثل هذا هو الاتفاقية التي وقعتها الدول الأوروبية في عام 1968 وهي مشهورة باسم (اتفاقية روما)، وهذه الاتفاقية تعطي الحق للمترافعين في أي محكمة في أي دولة من الدول الموقعة على الاتفاقية أن يطلبا من القاضي الاحتكام إلى قانون دولة أخرى، وبناء عليه فإن كثيرا من البنوك الإسلامية كان ينص في هذه الاتفاقيات «الاحتكام إلى المحاكم الإنجليزية بما لا يخالف الشريعة الإسلامية».

وتابع القري أنه كان يطلب من القاضي أن يحكم على القضية بأحكام الشريعة الإسلامية في السابق، وكان هذا هو السائد إلى أن عرضت قضية في المحاكم البريطانية قبل نحو سبع سنوات، والقاضي قال إن هذه العبارة التي تذكر في الاتفاقيات ليس لها تطبيق لأن اتفاقيات روما نصت على قانون دولة «أي إن المترافعين لهما أن يطلبا من القاضي الاحتكام إلى قانون دولة فقال القاضي أحضروا لي دولة مقننة فيها الشريعة الإسلامية، لا أستطع الرجوع إلى أصول الشريعة حتى أعرف الأحكام»، وأنه لا يوجد قانون في أي دولة اسمه «الشريعة الإسلامية».

وبين القري أن هذه العبارة التي ينص عليها في الاتفاقيات «أن تكون وفق الشريعة الإسلامية»، أصبحت لا قيمة لها، لكن الآن هناك تطور جديد في اتفاقية روما حيث إن هناك «اتفاقية روما 2»، والتي لن تقتصر على قوانين الدولة، موضحا أن الباعث على هذا أنهم وجدوا في كثير من القضايا أن المترافعين يريدان الاحتكام إلى شيء آخر غير قانون الدولة كالاعتمادات المستندية التي بناء عليها تتم التجارة الدولية، وليس فيها قانون وإنما هي مجموعة أعراف تقوم بجمعها غرفة تجارة باريس وتنشرها سنويا وهذه الأعراف ملزمة للناس ولكنها ليست قانون دولة.

وفصل أستاذ الاقتصاد الإسلامي أنه إذا اختلف بنكان أو بنك وتاجر وأرادا أن يحتكما إلى المحكمة، وقالا للمحكمة أرجو أن تطبقوا هذه الأعراف التي تصدر عن غرفة تجارة باريس، فالقاضي سيقول لهم اتفاقية روما لا تسمح بهذا «لأن اتفاقية روما نصت على قانون دولة»، مبينا أن التطور الجديد في هذه الاتفاقية مهم جدا وستتوسع الاتفاقية حتى تشمل مثل هذه الأعراف المستقرة في المعاملات، كون اتفاقية روما ستتوسع لكي تشمل القوانين وما يكون قانونا ولا يلزم أن يكون قانون دولة، ومن هذا الباب فإن هناك احتمالا كبيرا أن يتم الاحتكام إلى المعايير الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين، حيث جرت صياغتها على شكل قانون، وهي صادرة من جهة معتبرة وفي الوقت نفسه موسومة بأنها معايير شرعية، فإذا ارتضى بها الطرفان ونصا عليها في العقد فيمكن أن تكون بمكان الحكم.

وحول دور الهيئات الشرعية في إجراءات التحاكم إلى بلاد غير إسلامية، أوضح الدكتور القري أن الهيئات الشرعية تصر في العقود على أنه بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية وكثير من الهيئات الشرعية تنص على أنه لا يجوز أبدا الاحتكام إلى غير الشريعة الإسلامية في دولة غير إسلامية، وبعضها تقبل وتكتب بما لا يخالف الشريعة الإسلامية والآن كلا النصين لا معنى لهما الآن لأن المحاكم ستطلب قانونا مكتوبا عن الشريعة الإسلامية.

وأضاف القري أن كثيرا من المعاملات المالية فيها كثير من التعقيد، وتقتضي معرفة واسعة بالأمور المصرفية والمالية، وكثير من الاتفاقيات تكون مكتوبة باللغة الإنجليزية، مما يجعل كثيرا من المحاكم غير مهيأة لحل مثل هذه القضايا، فضلا عن أن المؤسسات يهمها كثيرا عامل الوقت في حسم أمورها.

وأبدى الدكتور القري تفاؤلا بالتوجه العام في بعض الدول، ومنها السعودية، نحو تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، بما يساعد في حل كثير من الإشكالات ويجعل القوانين واضحة أمام القضاة والمتخاصمين.

من جهته أوضح الدكتور عبد الستار الخويلدي، الأمين العام للمركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم، ومقره دبي، أنه لابد من الملاحظة الأولية أن التقاضي أو التحاكم هي ظاهرة طبيعية في التعاملات عموما والمعاملات المالية.

وأضاف الخويلدي أن الرجوع إلى المحاكم البريطانية وإلى المحاكم الأجنبية عموما لم يعد له مبرر في الفترة الأخيرة، لأنه كان لفترة تاريخية لجأت إليه المؤسسات المالية الإسلامية في بداية نشاطها والآن لما اشتد عودها وأصبح لها منظرون وأصبح لها هيئات شرعية وأصبحت هناك مجامع فقهية، لم يعد هناك مبرر لذلك.

وبين الأمين العام لمركز التحكيم أن المبرر في بداية الثمانينات كان نوعا ما يتمثل في حياد المحاكم البريطانية وعراقتها من ناحية إدارة العدالة، لكن هذا الشرط موجود في جهات أخرى وهو مركز التحكيم الإسلامي في دبي على سبيل المثال، والذي يغطي هذه الثغرة، فاللجوء إلى المحاكم البريطانية لم يعد له مبرر وإن كان بعض المؤسسات المالية قد تجد نفسها مضطرة عند التعامل مع جهات أخرى قد تفرض عليها القانون البريطاني.

وبين الدكتور عبد الستار أن خضوع المؤسسات المالية الإسلامية لأحكام القوانين الوضعية عموما والغربية منها خصوصا لم يعد أمرا محتوما، بل يخضع للتفاوض والإقناع وحتى لموازين القوى الذي لم تعد لصالح المؤسسات المالية الأجنبية، فضلا عن إبداء هذه المؤسسات مرونة في تقبل أحكام الشريعة الإسلامية بفضل التقارب الذي حصل بين المؤسسات المالية الإسلامية والتقليدية عن طريق ما يسمى بالمشاريع المشتركة، مشيرا إلى أنه من الناحية التاريخية كان هناك مبرر للجوء إلى القانون البريطاني في حل القضايا العالقة مع المؤسسات المالية الإسلامية.

وتابع الخويلدي أن المحاكم البريطانية الآن لم تعد قادرة على أن تحسم في الصناعة المالية الإسلامية، وذلك بحكم التعقيد وبحكم تمييز المنتجات المالية الإسلامية، حتى إن المحاكم البريطانية لجأت في إحدى القضايا إلى تعيين خبير لتعريف القاضي بالمرابحة وهذا أمر مستهجن لأن القاضي لا يلجأ إلى الخبرة إلا في المسائل الفنية ولا يلجأ إلى خبير ليعرفه بالقانون لأنه في كل النظم القانونية يفترض أن يكون القاضي ملما بالقانون.

وحول وجود قضايا في المحاكم البريطانية حاليا، أوضح الخويلدي أن ذلك صحيح ولكنه قد يكون قليلا جدا لأن كثيرا من المؤسسات المالية الإسلامية أدرجت بند التحاكم إلى مركز التحكيم بما فيها مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، وبالتالي القضايا المعروضة على القضاء البريطاني أو على جهات تحكيمية أخرى قد تكون قضايا قديمة ربما يوجد بها شرط أو لديها عدة إصدارات قديمة كإصدار ثان وثالث وهذا ليس حديثا بل يعني أنها صدرت قديما.

وأوضح الخويلدي أن العقد شريعة المتعاقدين وأن اللجوء إلى قرارات المجامع الفقهية والهيئات الشرعية بحد ذاته كاف لأن يكون التقاضي وفق أحكام الشريعة الإسلامية، إضافة إلى أنه يوجد كذلك هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ومجلس الخدمات المالية الإسلامية وكثير من الجهات والمجامع الفقهية وغيرها، والتي تكون كافية لعدم اللجوء إلى المحاكم الإنجليزية.

وعلل الخويلدي السر في المحاكم الإنجليزية بأنها معروفة تاريخيا أنها تنحى إلى الحياد والعدالة فلجأت إليها كثير من المؤسسات المالية سواء الإسلامية أو التقليدية، كما أنها كانت تتميز بالمرونة، وسبب تغيير المؤسسات المالية الإسلامية إلى جهات تحكيمية مستقلة هو تطبيقات الشريعة الإسلامية التي قد تكون غائبة عن القضاء البريطاني. من جانب آخر، يرى الدكتور حسين حامد حسان، رئيس الهيئة الشرعية لسوق دبي المالي وبنك دبي الإسلامي وعضو العديد من المجالس والمجامع الاقتصادية الإسلامية، أن الواجب بالنسبة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية أنها تنص في عقودها دائما على أن العقد يفسر ويحدد نطاقه التطبيقي ويكمل في نطاق أحكام الشريعة الإسلامية.

وأضاف حسان أن جميع العقود هي عقود شرعية وإسلامية وليس لها نظائر في القانون الوضعي إنجليزي أو غيره، «لدينا عقود معينة كعقد المشاركة والمضاربة والسلم والاستصناع وهي عقود مصدرها الشريعة الإسلامية»، موضحا أنه إذا كانت العقود في المصرفية الإسلامية مصدرها الفقه الإسلامي فكيف يتم تفسيره من قبل محاكم أجنبية لا تطبق التشريع الإسلامي في أحكامها، وأنه إذا كانت هناك عقود واتفاقيات بين بنوك إسلامية وأجنبية فيمكن تدوين شرط أنه في حال اللجوء إلى محاكم أجنبية أن لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.

وبين الدكتور حامد حسان أن البنوك بعد أن توسعت أنشطتها فهي بالتأكيد تواجه بعض الصعوبات فربما يتحسن الوضع مستقبلا، وأنه لا بد من بذل الجهد لمساعدة القضاة الأجانب بتفسير بعض المصطلحات التي لا يعرفونها عن أحكام الشريعة الإسلامية، وكذلك تقريب وجهات النظر مع القاضي لأنه لا يستطيع أن يعرف قضايا الفقه الإسلامي.

وتابع الدكتور حسان أن مركز التحكيم والمصالحة الإسلامي الدولي يمكن أن يحل هذه المشكلة التي تعترض البنوك الإسلامية إلى أن يتم تقنين القوانين في الفقه الإسلامي وفقه المعاملات.

والمعروف أن التحكيم بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية يتميز بمطابقته لأحكام الشريعة الإسلامية، كونه يصدر من متخصصين في المعاملات المالية الإسلامية بشقيها الفني والشرعي، وكذلك حرص المؤسسات المالية الإسلامية من غيرها من المؤسسات المالية على فض النزاعات بواسطة التحكيم لأن الضرر عليها أكبر من المؤسسات التقليدية.

وأمام ذلك فإن البعض يرى أن بعض المحاكم التي نظرت في قضايا تخص المعاملات المالية الإسلامية غير قادرة على فهم طبيعة وأبعاد المعاملات المالية الإسلامية، ومنها المحاكم البريطانية التي تعرض عليها سنويا نسبة كبيرة من القضايا (بحكم النص في عقود التمويل على اختصاص تلك المحاكم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية) التي تتعلق بالمؤسسات المالية الإسلامية في مسائل تخص مدى تطابق معاملة مصرفية معينة مع أحكام الشريعة الإسلامية.