القرض الحسن بصورة مؤسسية

TT

تحدثت في مقال سابق عن القرض الحسن ومدى أهميته في الإسلام كصورة من صور التكافل الاجتماعي التي حث عليها ديننا الحنيف ورتب عليها الأجور العظيمة، ويكفي في ذلك أن المقرض عندما يقدم القرض لأخيه المسلم مبتغيا به وجه الله فكأنما أقرض الله سبحانه وتعالى من حيث ترتب الأجر الأخروي على هذا القرض وفاء لهذا القرض الدنيوي. وتطرقت في المقال لتطبيقات هذا القرض في بعض مؤسسات الصيرفة الإسلامية التي فرغت هذه الصورة التكافلية من معانيها السامية، فجعلت منها وسيلة للتسويق لتعظيم أرباحها، أو حيلة للالتفاف على الربا المحرم في الشريعة الإسلامية الذي فر منه عملاؤها. ولعل السبب في ذلك كون هذه المؤسسات هي مؤسسات هادفة للربح، ومن هنا ينشأ تعارض المصالح بين غرض المشرع سبحانه من سنّه للقرض الحسن، وهو التوسعة والتيسير على المحتاج على سبيل التكافل طلبا للأجر من الله، وبين غرض مؤسسي المؤسسة المالية الإسلامية والقائمين عليها، وهو تحقيق الربح الدنيوي من الاستثمار، وهو غرض مشروع إذا توصل له بسبب مشروع.

ولوجود هذا التعارض بين المصلحتين فإنني أرى وجوب الفصل بينهما، فلا يجوز أن نطالب المؤسسات المالية الإسلامية بأن تقدم تمويلاتها لعملائها في صورة قروض حسنة لأن من شأن ذلك القضاء على وجود مؤسسات الصيرفة الإسلامية كنموذج أعمال، حيث ستنعدم رغبة المستثمرين في إنشائها وانصرافهم عن الإيداع فيها لأنها لم تعد مؤسسات ربحية تحقق لهم أهدافهم الاستثمارية، بل هي مؤسسات خيرية. فالذي يدعو الصيرفة الإسلامية إلى تقديم تمويلاتها على سبيل القرض الحسن هو في الحقيقة يدعو إلى إلغاء الصيرفة الإسلامية من الوجود كنموذج أعمال، وقد وقع بعض منظري الصيرفة الإسلامية في هذا الفخ، وذلك في رد فعل منهم على التورق المصرفي المنظم الذي أصبح من أهم أدوات التمويل لدى صناعة الصيرفة الإسلامية اليوم، حيث يشكل نحو 65 في المائة من إجمالي عمليات التمويل لديها، حيث دعوا إلى استبداله بالقرض الحسن. ولا شك أن الداعين إلى ذلك لم يدُر بخلدهم هذا، إلا أن مؤدى دعوتهم هو حصول هذا الأمر! ولعل هذه الدعوة وأمثالها تكشف لنا مدى بُعد بعض منظري الاقتصاد الإسلامي عن واقعهم، مما يجعل الكثير من نظرياتهم غير قابلة للتطبيق، ومن هنا نجد الانفصال الواضح بين النظرية والتطبيق في صناعة الصيرفة الإسلامية. إلا أن دعوتي هذه للفصل بين القرض الحسن ومؤسسات الصيرفة الإسلامية لا تعني إعفاء مؤسسات الصيرفة الإسلامية من واجباتها تجاه مجتمعها في تقديم يد المساعدة له بإحياء سنّة القرض الحسن، حيث أرى أنه يجب على هذه المؤسسات تقديمه ولكن عبر مؤسسات منفصلة تنشئها لهذا الغرض أو تساهم في إنشائها مع بعض المحسنين أو مؤسسات النفع العام، بحيث تكون الحاضنة لها، فتقوم بضخ رأس المال المبدئي اللازم لإنشائها، مع الإشراف عليها إداريا ودعمها فنيا بما تملك من خبرات في هذا المجال، نظرا للتشابه في النشاط وهو التمويل مع اختلاف الغرض من التمويل. ومعلوم أن نشاط التمويل يحتاج إلى كفاءات إدارية ومهنية وأنظمة إدارية وحاسوبية لا توجد سوى في المؤسسات المالية نظرا لكلفتها العالية.

وبذا نحقق الفصل التام بين القرض الحسن كأداة للتكافل بين أفراد المجتمع ومؤسساته وبين مؤسسات الصيرفة الإسلامية كنموذج أعمال يهدف إلى الربح. كما أن وجود مؤسسات القرض الحسن هذه سيشجع المجتمع بجميع مكوناته لتبني العمل المؤسسي التكافلي، حيث سنشهد تحولا في نمط الأوقاف، فبدلا من وقف الدور والبنايات سنشهد وقفا للأموال في شكل صناديق إقراض حسن. كما سنرى تحولا في نمط صناديق التكافل الموجودة اليوم سواء العائلية أو القبلية أو الموظفين من نمطها البسيط المحدود اليوم إلى أنماط مؤسسية تدار وفق أحدث الأنظمة المالية والإدارية، مما سيؤدي إلى تحقيق أهدافها بكفاءة. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية